الجمعة, 18 أكتوبر 2024

رحلة عبادان

319 مشاهدة
منذ 3 سنوات

رحلة عبادان هي قصة حقيقية وجذابة رويها سعادة السفير البروفيسور عبدالستار الراوي اخر سفير غراقي في ايران قبل الاحتلال الامريكي للعراق/ وعبادان هي حاضرة عربية احوازية تاريخية . الرحلة الى عبادان كانت تمثل أهمية كبيرة إن لم أقل أنها كانت واحدة من امنياتي ، أن أطل عل هذا الجزء المستلب من الوطن العربي واتعرف على واقع عبادان واهلها ، ولذلك حاولت ومنذ السنة الاولى لالتحاقي بعملي في ايران في العام 1998 الحصول على موافقة الخارجية الايرانية ، وكتبت العديد من المذكرات الرسمية بهذا الخصوص ، ولكن دون جدوى ، ففي كل مرة يصطنعون عذرا ، او يتذرع المسؤولون بحجة ، إلى أن تلقيت في 15 شباط 2002 رسالة من مواطن عراقي مودع في السجن المركزي في عبادان ، يقول فيها بأنها الرسالة الرابعة التي يكتبها الى السفير العراقي ولم يأته جواب على أي من رسائله الاربع ، وعلمت بعدئذ بأن نقطة المخابرات المرابطة في (الكشك) المنصوب عند مدخل السفارة كانت تحتفظ بالرسائل أو تصادرها . خليل البصري : شاب في حوالي الخامسة والعشرين من مواليد ابي الخصيب ، حاصل على بكالوريوس من كلية الادارة والاقتصاد جامعة البصرة ، متزوج وله طفلان ، يعشق البحر ، عمل (نوخذة) على ظهر مركب للصيد : خلاصة القضية : يقول خليل: أثناء وجونا على ظهر المركب ، ونحن في غمرة الانشغال بعملنا، وفي المكان الذي إعتدنا الصيد فيه داخل المياه الاقليمية العراقية ، فوجئنا بقيام زوارق عسكرية ايرانية ، تطوق مركبنا من كل جانب ، لتنقض وتفتح النار علينا، وأسفر الهجوم عن إصابتي بجرح ومقتل ثلاثة عراقيين ، ولم يكن امامي من فرصة الا الهرب ومحاولة الافلات من بنادق الموت الايرانية ، فألقيت نفسي في مياه البحر، .. الا أنهم تمكنوا من الامساك بي ، وانتشالي من المياه ، وبعد أيام طويلة من التحقيق المصحوب بالتعذيب ، أودعوني السجن المركزي ، كانوا يسعون لإنتزاع اعتراف مني بأن أقر بأننا كنا نصطاد في المياه الاقليمية الايرانية ، وكنا مكلفين بمهمة جمع معلومات عسكرية لصالح المخابرات العراقية يقول خليل : الفترة التي امضيتها في السجن المركزي لم تكن كلها سيئة ، فقد كان غالبية المودعين من عرب الاحواز ، واستطعت ان اتعايش معهم ، وعاملوني معاملة كريمة طوال فترة إحتجازي ، كوني عربيا ولانني عراقي ايضا ، وقد تعلمت الفارسية ايضا . 9 تموز 2002 رحلة عربستان 10تموز 2002 في رحلة عربستان كان السيد فالح القيسي الرجل الوديع ، رفيق السفر، عدا كونه يتقن الفارسية ، كانت قضية المواطن (خليل) تتطلب وجوده بوصفه نائب القنصل ، وهو معني بمتابعة الامر ، وعلى دراية تامة بتفاصيل قضيته ، وقد بذل الرجل مجهودا محمودا في العرض القانوني الذي قدمه أمام المحكمة ، إذ كانت البحرية الايرانية ، تعمل على حصول التنازل من ذوي الشهداء الثلاثة ، عن الحقوق القانونية وان لايرفعوا أية دعاوى ، أمام اي محكمة من المحاكم ، فيما كانت الدائرة القانونية في الخارجية العراقية ، تعمل على تفريق الدعاوي ، واحتفاظ ذوي الشهداء بحق المطالبة بدماء أبنائهم ، بالاضافة ، إلى إعادة المركب للعراق . · طهران ، مطار مهراباد ؛ استغرقت الرحلة إلى الاحواز ساعة بالتمام الساعة الثانية عشرة ظهرا هبطت الطائرة في مطار عبادان الدولي (بالفارسية: فرودگاه بین ‌المللی آبادان) في محافظة خوزستان ، وهو ثاني مطار دولي في المحافظة بعد مطار أهواز الدولي، استغرقت الاجراءات مدة وجيزة ، خرجنا إلى الشارع العام ، وجدنا عند باب المطار الخارجية ، صفا طويلا من عربات الاجرة ، هرع إلينا رجل في الاربيعين من عمره ، مرحبا : أهلا وسهلا الاخوة عرب ، لغته العربية شبيهه باللهجة العراقية ، هذه سيارتي تفضلوا، أشار إلى سيارة (بوليكان) قديمة ، كان الجو حارا ورطبا ، إعتذر الرجل ، لعدم وجود جهاز تكييف ، فأنزلنا زجاج النوافذ، الهواء كان رطبا وثقيلا ، والحرارة مرتفعة تجاوزت الاربعين درجة. سألناه السائق عن أي اللفظين أصح (الاحواز) أم (الاهواز) ، فأجاب على الفور (الاحواز) قطعا، أما اللفظة الاخرى فهي أعجمية . ملاحظة : بشأن اسم (احواز) تقول المدونات الجغرافية والتاريخية بأن الأحواز هي جمع لكلمة "حوز"، وهي مصدر للفعل "حاز"، بمعنى الحيازة والتملك، وهي تستخدم للدلالة على الأرض التي اتخذها فرد وبين حدودها وامتلكها. و"الحوز" كلمة متداولة بين أبناء الأحواز فمثلا يقولون هذا حوز فلان، أي هذه الأرض معلومة الحدود ويمتلكها فلان. وعند الفتح الإسلامي لفارس أطلق العرب على الإقليم كله لفظة "الأحواز"، وأطلقوا على العاصمة سوق الأحواز للتفريق بينهما. أما "الأهواز" فهو اللفظ الفارسي لعجمة لسانهم، وإن كان هذا اللفظ قد تسرب إلى بعض الكتب العربية. وفي العهد الصفوي سماه الفرس: "عربستان" أي القطر العربي. أما "خوزستان" فهو الاسم الذي أطلقه الفرس على الإقليم وهو يعني بلاد القلاع والحصون تلك التي بناها العرب المسلمون بعد معركة القادسية، وسمي به الإقليم مرة أخرى بعد الاحتلال الفارسي بأمر من رضا شاه عام 1925م. الساعة الثانية عشرة و20 دقيقة ب. ظ ، أوصلنا السائق واسمه (ابو جواد) إلى فندق نادري في ( خيابان إمام) شارع الامام ، خاض ابو جواد سجالا مطولا مع مدير الفندق، يتعلق بـ(الحجز المسبق) وإرتفاع الاجور ، ونظافة الغرفة . التفت ابو جواد الي قائلا بصوت خفيض : (هؤلاء أعرابا وليسوا عربا) ، وقد لفت نظري أن السائق كان يخاطب مدير الفندق بالعربية، فيجيبه المدير باللغة بالفارسية . الامر الذي سبب ازعاجا إضافيا لابي جواد . قام مدير الفندق بتصوير جوازات السفر، وكتب بعض البيانات . خيابان إمام - فندق نادري ، الدور الخامس ، غرفة 512 - هواتف الفندق 2225757، 2229000، 2213081 قبل أن يودعنا أبو جواد ، الذي كان متذمرا من سلوك مدير الفندق ، الذي قال عنه أنه عجمي أكثر من العجم ، وقال مودعا وهو يردد ( وشرف الامام الحسين لو كان في منزلي جهاز تبريد ، لما تركتكم تقيمان هنا ، اتفقنا أن يمر علينا في الثامنة مساء ، ليصحبنا في جولة حرة نتعرف بها على المدينة . الساعة تشير إلى 12 و35 دقيقة ، صعدنا إلى الغرفة ذات ال12 مترا ، نافذة واحدة صغيرة تطل على جدار صامت ، كما الزنزانة ، ووجدناها متواضعة رغم ان درجة الفندق أربع نجوم كما تشير اللوحة الموضوعة على جبهته الخارجية . الثانية والنصف ب.ظ انتهيت من تناول الغذاء ، واقتصرت الوجبة على الرز واللبن الرائب . الثالثة بعد الظهر : خلدت للنوم الرابعة والنصف : صحوت وتناولت شايا جلست على احدى أرائك الاستقبال . رجل عجوز في حوالي السبعين يغفو وهو جليس على الكرسي ، يضع حقيبة سوداء بين فخذيه .. لا أحد يجرؤ على اقتحام هذا الجو الذي تفوق حرارته الفرن الجميع يلوذون بجهة التكييف ، يضعون وجوههم أمام فتحات التهوية الثلاث ، المدخل واجهة زجاجية طولها حوالي 14 مترا، بسم الله الرحمن الرحيم على جانبي الصالة نوافذ كبيرة ، مغطاة بستائر حمراء ، وبساط مقارب للون الستائر يمتد من بوابة الفندق إلى آخرة رواق الاستقبال . العجوز ذو الحقيبة السوداء أفاق من اغفاءة القيلولة ، اخذ رشفة ماء من قنينة الماء الصحي ، وعاود النوم مرة اخرى اقتحمت الصالة امرأة بدينة ، مترهلة الجسم ، لايقل وزنها عن مائة وخمسن كيلو في اقل تقدير، ــ تحوي الصالة عل ثلاثة اطقم من (الارائك) ذات لون زهري بارد. خريطة ايران بحجم كبير تحتل الجدار الايسر من قاعة الاستقبال ، لوحة تشير إلى إتجاه المطعم (الرستوران) توجد 12 ثريا صغيرة تتدلى من سقف القاعة الاستعلامات تحتل صدر القاعة ، ذات واجهة أمامية في غاية التنظيم ، منضدة عالية بإرتفاع 170 سم وبطول ستة امتار ، وهي مصنوعة من خشب الزان ، محفور على امتداد مساحتها ، وبطريقة الرليف البارز تشكيلات جميلة من الورد والطيور والغزلان . الساعة تشير الآن الى الخامسة ، التلفزيزن في الزاوية اليمنى من الرواق .. مذيعة ترتدي الحجاب التقليدي ، تستعرض برامج المساء . القيت نظرة على الشارع ، سيارات تمر بين الحين والاخر على نحو متقطع ، كان الشارع خاليا من الناس ، الرطوبة والحر توأمان قبالة الفندق في الجهة الاخرى معرض سيارات (اتومبيل مهزيار) مابين السابعة والسابعة والنصف ، واصلت المشي في شارع (إمام) ، التقطنا صورة امام باب الفندق امرأة في العقد الثالث ، ذات قوام رشيق ، سمراء البشرة ، حسنة الوجه ، دلفت إلى الصالة تحمل طفلا رضيعا على ساعدها الايسر فتى في العشرين ، يرقب الباب وينظر، بين حين وحين الى ساعة في يده ، لعله ينتظر احدا . فجأة خرج كرسي متحرك من بوابة الاستعلامات الجانبية ، تجلس فيه فتاة بهية الملامح بيضاء ،القت علينا السلام ، علمت أنها تعمل في الفندق بصفة محاسب، تدعى (إلهام فاضل) وهي عربية ، ويطلق عليها خانم فاضلي ؟ في الثامنة و20 دقيقة مساء ، كنا في سيارة ابي جواد ، جاءنا معتذرا ، بسبب تأخره عن الموعد . تجولنا في مدينة الاحواز ودليلنا السائق نفسه : عبرت بنا السيارة جسرا يعرف بـ(الجسر الابيض) وشاهدنا نهر الكارون ، وهو من أقدم الأنهر التاريخية التي تأسست على ضفافها أقدم الحضارات التاريخية. ينبع من (زردكوه) والتي تعني الجبل الأصفر ضمن سلسلة جبال زاجروس ثم يصب في شط العرب ومنه إلى الخليج العربي مشكلاً دلتا جزيرة عبادان، يبلغ طول نهر كارون حوالي 950 كيلومتر. نزلنا اسواق المدينة وتجولنا في انحائها ، يغلب عليها الطابع الشعبي ، والبضاعة المعروضة رخيصة الاثمان ، معظمها ذات منشأ كوري وصيني .. الشئ الذي يلفت النظر في السوق أن بضاعتها مرتبة حسب الجودة والاصناف ، دخلنا سوقا شعبية تشبه إلى حد كبير اسواق مدينة الثورة ، يفترش كثير من الباعة الارض ، واخرون باعة جائلون ، اللسان العربي في هذه السوق حرا طليقا ، تحسب نفسك في العراق ، اللهجة قريبية من البصرة ، الملامح ، القاء التحية ، الاهتمام ، يحبون العراق وويحملون اجمل العواطف لشعبه ومدنه وانهاره ويبدون اعجابهم بالرئيس صدام حسين ،..، حاولنا اختبار احد الباعة فسألناه بالفارسية ، فنظر الينا وفي طرف عينيه إبتسامة ، فرد علينا بلسان عربي مبين ، لا أحد من الايرانيين (العجم) يدخل هذه السوق واذا دخلها فإنه لايشتري ولايتبضع منها . امرأة كبيرة في حوالي الخمسين ممتلئة نسبيا ، تغطي راسها بالفوطة والجرغد ، تجلس على الارض أمام بسطة من المشغولات اليدوية ، وتقول لك بطيب خاطر ، خذ ما تشاء من غير فلوس ، طالما انت من العراق، اهل النخوة والكرم . قالت انها من بني كعب (لحمنا ودمنا هناك ) جذورنا .. اسألكم الله ان تشربوا البارد (النوشايا) .. امراة كما الرجل فارعة الطول، جهيرة الصوت ، تدير محلا لبيع الاقمشة النسائية ، قالت : اختر فقط ، والسعر امره سهل ، اجرت تخفيضا بنسبة ثلاثين بالمائة ، قائلة هذه هديتكم ممرات ومقتربات سوق العرب تلتهب باقدام المارة ، دخان العوادم والهواء الساكن الرطب ، وحرارة قاربت الخمسين , اعجبتني الأسواق القديمة ، اضفيت عليها لمسات الحداثة في تصميم واجهاتها .. كانت جميلة قاريت الساعة العاشرة مساء أعجبني الكورنيش على ضفتي نهر الكارون ، كان فسيحا معبدا ومضاء تنعكس الاضواء راقصة على صفحة المياه .. قطعنا الكورنيش مشيا .. الرغبة الحارة لاكتشاف المكان والتعرف على تفاصيل المدينة ، وحدها التي جعلتني أتحمل الطقس الجهنمي فقد كان الحر ينبعث من الارض شواظا من نار ، وتشعر كأنك محشور في تنور ، القيض هنا هو الجحيم بعينه ، الساعة تخطت العاشرة مساء لكنك تشعر بأنك في عز الظهر الصيفي والريح الشرقية بهوائها الجاف االثقيل تسلخ جلدة الرأس والوجه واليدين تنز العروق ماء من حميم العرب زرافات ووحدانا يخترقون الجحيم ، غير آبهين بالطقس .. ينسربون تباعا ، يثرثرون ، تسمع صخبهم وطرائفهم ، يتضاحكون حدثني أبو جواد عن تقاليد المجتمع العربي في الاحواز : العرب لايزوجون بناتهم لاحد من الايرانيين (الفرس) ولكن يحق لنا أن نتزوج من بناتهم، دخلنا سوقا كما لو كنا في العصر العباسي الاول، كانت في غاية التنظيم ، جدرانها من اللبن البارد ، بقايا بيت عتيق ذي باب كبيرة تشبه أبواب خانات فحامة الكرخ ، قال ابو جواد : هذا كل مابقي من قصر الشيخ خزعل .. حولت الحكومة الايرانية جزءا منه الى محطة للباصات العمومية ، فيما استحوذت على الاجزاء الاخرى منه مؤسسة ايرانية الزحام في الشارع اخف وطأة هنا من طهران .. لكن مخالفات السواق هنا ، وعدم التقيد بالاشارات المرورية تكاد تكون عادة شائعة كما في المدن الايرانية الاخرى . العاشر من تموز 2002 الساعة الواحدة من صباح يوم 10 تموز ، وهو الوقت الذي عدنا فيه إلى الفندق . حاولت القراءة في كتاب (تحت سماء الجليد) فغفوت ورحت في نوم عميق في السادسة والنصف فتحت عيني وبعد حوالي 15 دقيقة نهضت من الفراش ، أخذت حماما وهيأت حقيبتي السابعة و 25 دقيقة تناولنا الفطور في مطعم الفندق بلبل فتان : يتلفت ويتراقص في قفص صغير اصفر ، أخذ البلبل يغرد ، يصفير متناغم ، عاد بي إلى زمن (بلبل اذاعة بغداد) كان صفيره ، افتتاحية برنامج الصباح ، تعقبه تلاوة القرآن الكريم . لفت نظري رجل يتناول فطوره وهو يفترش الارض جليسا غادرت الاحواز في الثامنة صباحا في طريقنا إلى عبادان استغرق الوصول الى المدينة ساعة واربعين دقيقة . التاسعة و45 دقيقة صباحا إلتقينا آمر السجن المركزي (السيد تسليمي) في مقره ، وهو رجل في العقد الرابع ، ذو بنية نحيلة وقامة تميل للقصر ، حنطي البشرة ، يظنه المرء عربيا ، بسبب ملامحه وطريقته في السلام والترحيب ، رحب بنا بحرارة بالغة ، وقال بالفارسية وهو يصافحنا، بأنه سعيد جدا لوجودنا ، وانه كان ينتظر هذا اللقاء من خلال المراسلات مع وزارة الخارجية في طهران، أدخلنا غرفة واسعة فيها قدر كبير من إتساق الالوان ، والتنظيم واللمسات الجمالية، تبلغ مساحتها حوالي ثلاثين مترا مربعا، ذات ستائر شفيفة خضراء اللون ، مفروشة بسجاد (فستقي) وثمة أرائك وكراس مغلفة بقماش (الستان) تتسع ل12 شخصا ، على الجدار الخلفي للمكتب ثلاث صور بحجم موحد : الخميني ، خامنئي ، خاتمي ، علم الجمهورية الاسلامية فوق المكتب ، في الجدار المقابل آية قرآنية وضعت في إطار ذهبي . رحب الرجل بنا بحرارة ، وأجلسنا في الزاوية اليمنى ، مائدة ملأى بالفاكهة ، والعصائر، .. وجيئ إلينا بالشاي أيضا . تحدثنا عن عن المواطن العراقي (خليل) وعن الاجراءات القانونية ، .. قلت للسيد تسليمي، جئت إلى هنا لانهاء موضوعه ـ ومن الضروري ان نراه .. فأجاب علينا أن نتريث قليلا ، فالتعليمات تقضي أولا أن نلتقي القاضي ونستمع اليه ، في العاشرة والنصف اصطحبنا السيد تسليمي إلى محكمة عبادان .. التقينا رئيس المحكمة وكان رجلا معمما ، وقد أكرم الرجل وفادتنا، وقد وضعت أمامنا اطباق من الحلوى والفاكهة برفقة مأمور السجن ورئيس المحكمة ، توجهنا الى (المحمرة) ، وصلنا (الميناء) موقعه قبالة جزيرة أم الرصاص التي سقط على شواطئها وفي مياهها آلاف الضحايا والشهداء ، دخلنا مبنى كبير نسبيا ، استقبلنا في مكتب ضابط بحري بدرجة لواء قدم لنا موظفو مكتبه العصير والمياه المعدنية والشاي واحطنا برعاية كبيرة ، من العسكر والمدنيين والمدنيين .. وبعد ان قدم القاضي ايجازا بالقضية امام الضابط البحري الكبير ، تم إحضار المواطن العراقي خليل كان شابا في الخامسة والعشرين، كاد أن يطير فرحا ، عندما اخبره المأمور بهويتي . بعد مداولات بذل فيها القاضي جهدا طيبا ، تقرر الافراج عن خليل وتسهيل امر عودته إلى العراق عن طريق نقطة الشلامجة الحدودية . وتم الاتفاق على ان يكون موعد التسليم الساعة الثامنة مساء هذا اليوم . القاضي شيخ ابيض البشرة ملتح باسم العينين، كان ودودا ، تحدث عن موضوع خليل وقال (انني درست هذه القضية دراسة مطولة ، وكنت حريصا منذ البداية على تحقيق العدل بصرف النظر عن هوية الاطراف ... ) وسألته متى تنتهي القضية ياحضرة القاضي ؟ فأجابني بصوت جهير وهو يضحك ( انتهت القضية ، وها أنا أسلمك نسخة من قرار الافراج الفوري عن خليل .. وبوسعك اصطحابه الان ) فنهضت وصافحته معانقا . الساعة 25/ 12 اجريت مكالمة هاتفية مع سفارتنا في طهران وتحدثت مع السكرتير الاول السيد رياض حسون جواد، وطلبت منه ان يبرق الى وزارة الخارجية يعلمها نبأ إلافراج عن المواطن العراقي خليل المحتجز لدى السلطات الايرانية . وان موعد التسليم سيكون في الساعة الثامنة مساء اليوم عن طريق نقطة الشلامجة الحدودية ، ويقتضي قيام الخارجية بالتنسيق مع البصرة ومع شرطة الحدود ، لترتيب اجراءات تسلم المواطن . حاولت قرابة ساعتين تأمين الاتصال بالخارجية في بغداد ، لكن الخطوط كانت مشغولة ، وفي الساعة الواحدة وخمسين دقيقة تمكنت من الاتصال هاتفيا بمدير مكتب الوزير الدكتور فاروق فتيان اخبرته بأن موعد تسليم المواطن العراقي سيكون الساعة الثامنة من مساء هذا اليوم ، وسأقوم شخصيا بذلك ، ويتطلب الامر الاسراع في إشعار الجهات المعنية والتنسيق معها لهذا الغرض ، ورجوته التقيد بالموعد والالتزام بالتوقيتات من قبل السلطات الحدودية . الساعة الثانية ب. ظ صحبت المواطن خليل إلى فندق (كروان سرا آبادان) خمس نجوم ، تناولنا الغذاء ، وتحدثنا عن ذكرياته في السجن وبعد الانتهاء من الطعام وطلبت منه أن يصعد إلى غرقته لاخذ قسط من الراحة ، والاستحمام ، واستبدال ملابسه بأخرى جلبتها معي من طهران . ليكون بأفضل حال وهو في طريقه إلى الوطن واللقاء بالاهل . الساعة الثالثة والربع بعد الظهر : عاودت الاتصال بالخارجية دون جدوى ، وحصلت من بدالة الخارجية على الهاتف المنزلي لمدير المكتب الدكتور فاروق الفتيان ، تحدثت مع ولده ، اخبرني بأن والده لم يعد للبيت حتى الان ، اكدت عليه ان يبلغ اباه بضرورة الالتزام بموعد هذا المساء الرابعة والنصف بعد الظهر : فوجئت بمكالمة من الخارجية الايرانية قال المتحدث (علي) من دائرة التشريفات بأنه يحمل رسالة الي من السيد ايرواني يقول بالنص (بشأن بطاقات الدعوة الخاصة بالعيد الوطني العراقي سيتم إرجاعها إلى سفارتكم ، ان كتابة العنوان الوظيفي للسيد حسين صادقي كمدير عام لدائرة الخليج (الفارسي) هو الاجراء الاصولي والطبيعي لقبول الدعوة ، طبقا لانظمة الجمهورية الاسلامية ، والعراق هو البلد الوحيد (حسب قوله) الذي ينفرد في الامتناع عن كتابة عبارة (الخليج الفارسي) !! زعم بأن كافة السفارات العربية المعتمدة في طهران تخاطب هذه الدائرة بالاسم الرسمي الصريح ) · 30-3- 30-4 عصرا حاولت الاسترخاء قليلا نزلت الى كافتيريا الفندق ، تناولت الشاي الاخضر بالنعناع .. تصفحت كتاب (قصاصون في العراق) وواصلت القراءة 40-6 مساء بمرافقة مدير السجن تسليمي وبسيارة حكومية اتجهنا من المحمرة إلى الشلامجة شاهدنا على جانبي الطريق آثار حرب الثماني سنوات . 730مساء الشلامجة – نقطة الحدود المشتركة العراقية الايرانية ، قبيل ان تجري إجراءات التسليم ، دسست في جيب خليل مبلغ مائة دولار ، واوصيته أن يشتري بها هدايا لزوجته واطفاله · 55-7 مساء وفق محضر رسمي بين نقطتي الحدود المشتركة تم تسليم المواطن خليل إلى النقطة العراقية ، (ضابط برتبة مقدم) ، عبر خليل الحدود ، حالما بلقاء عائلته في ابي الخصيب كان النقيب الايراني المسؤول عن نقطة الحدود متعاونا الى اقصى حد في سرعة الاجراءات، وودودا في لقائه بنا حمل جندى ايراني اكوابا من عصير الليمون ، وقدم قدحا للمقدم العراقي الا أن الاخير كان مترددا ، مما سبب حرجا لنا ، فأشرت اليه قائلا (وجب الزاد) الحدود بين البلدين بينهما عارضة حديدية ، وجدول ماء ضحل المياه يكاد أن يكون شبه جاف الجو كان معتدلا إلى حد ما .. كان الهواء غربيا درجة الحرارة تصل الى اكثر من 40 درجة حطام سنوات الحرب الطويلة كان شاخصا في كل الانحاء والجهات، البيوت متهاوية ، والشبابيك المهشمة ، الثقوب على البواب ، اكوام حديد لمسقفات متداعية ، حفر كالابار غائرة احدثتها الصواريخ والقنابل بوابتان عملاقتان متقابلتان وجها لوجه بوابة العراق يرفرف على ساريتها علم العراق، البوابة تكاد تكون نسخة مقاربة من بوابة بغداد، تنتصب على جناحيها قبتان فيروزيتان ، محلاة بالكاشي الكربلائي المعروف ، الذي يستخدم عادة في تجميل المآذن والقباب . البوابة مشيدة بالطابوق البغدادي الاصفر . جندي عراقي يقف تحت البوابة يتأبط بندقية كلاشنكوف ، ثلة من الجنود العراقيين بملابس النوم ، خارج نوبة الحراسة ، منشغلون بطهي الطعام في الفضاء المفتوح .. احدهم جاء يحمل قدرا البوابة الايرانية أقل شأنا وحجما من العراقية . منصة عالية بإرتفاع ستة امتار للرصد تبدو كما برج المراقبة تنتصب فوقها ثلاثة رشاشات متوسطة مصوبة نحو ايران . جدول ماء ضامر يشق ضفتي البلدين . فوقه معبر ضيق ، قنطرة مهملة .. أعد الايرانيون محضر التسليم وتطلب بصمة المواطن خليل وتوقيعي ، وتوقيع نائب القنصل فالح . منذ وصولنا والى وقت مغادرتنا ، احاطنا الايرانيون المرافقون برعاية بالغة ، وابدوا احتراما وتقدرا كبيرين ، مدير السجن تسليمي والمسؤول الامني (الشاب الثلاثيني) الذي رافقنا في الذهاب والاياب ، ومندوبي المحكمة والموانئ ، وشرطي من قوة الحدود، تصرف الجميع وتعاملوا معنا بكل تهذيب ولياقة . 8 مساء صافحت العراقيين والايرانيين ضباطا ومراتب ، صافحتهم واحدا واحدا ، وكان في وداعنا الطرفان -810 مساء اصطحبنا في العودة مدير السجن بسيارته الصغيرة نوع برايد الايرانية الصنع ،مررنا بالفندق ، لحمل الحقائب الساعة 44-8 مساء دخلنا المطار ، لم يبقالا دقيقة واحدة على موعد الاقلاع . تمنع موظفو المطار بسبب تأخرنا . ثم عادوا وقالوا أن هناك مقعدا واحدا فقط ، اعتذرت لهم عن التأخير القاهر، ورفضت العرض، وقلت لهم لامجال ان يسافر أحدنا ويبقى الآخر، ونفضل في هذه الحلة ان نبقى الى اليوم التالي ، لنأخذ طائرة الصباح . بعد مشاورات والحاح ورجاء السيد تسليمي مع موظفي المطار ورجال الامن ، قرروا اخيرا السماح لنا بالسفر، وطلبوا منا الهرولة إلى الطائرة . موظف الامن عند بوابة الخروج ، شرع في تفتيشنا ، أفهمناه بأننا دبلوماسيون ، دار برأسه يمينا ويسارا ، وفكر قليلا ، ثم سمح لنا ، هرولنا نحو الطائرة ، وما إن صعدنا ، حتى رفع سلم الطائرة ، إستعدادا للاقلاع . اكتشفنا بوجود خمسة مقاعد فارغة ؟ 930 لم تقلع الطائرة إلا في الساعة التاسعة والنصف . جاورتني شابة في الثلاثين من عمرها 30-10 مساء وصلنا مطار مهرباد كان في انتظارنا المستشار توفيق والسيد ياسين عبدالجليل محاسب السفارة . 45-11 مساء دخلت البيت ، احاطني عزاوي وزينب ونجلة ، تناولت عشاء خفيفا ، امضيت معهم ساعة من الزمن ، وبسبب الارهاق والتعب خلدت الى النوم · ملاحظات المفاجأة العاصفة الكبرى ، كانت في اللحظة الاخيرة في مطار الاحواز ونحن نهم، ركوب الطائرة ، عندما همس في اذني مدير السجن (بلغة عربية فصيحة ، وهو يردد العبارة العربية الاثيرة لضيفه – اعذرنا من أي تقصير _)!!!!!!!!!! وهو الذي لم يتحدث بحرف عربي واحد طوال يوم كامل ، فنظرت إليه ووجدته يبتسم ، صافحته بحرارة ومضيت ـ المناخ القاسي والاراضي البور ، شحوب المدن الثلاث وانحطاط العمران وبيوت من طين الاشجار قد يكون بعضها باسقا ، لكنها صفراء وضامرة ، تشكو من عطش طويل الامد . بعض الشوارع كانت بلا ارصفة ، وبعضها ايضا خال من العلامات المرورية ، تمتلئ الجزر الوسطية في الشوارع الرئيسية بصور ضحايا الحرب ، من كل الاعمار ، بما في ذلك الصبية الصغار، حيث لجأ الايرانيون في سنوات الحرب ، الى زج الصبية والاطفال في الحرب ووضعهم في خطوط الجبهة الامامية قبيل الهجمات التي كان ينوي القيام بها . وثمة جداريات يتقاسمها الخميني وخامنئي ابقى الايرانيون عشرات من شواهد الحرب وآثارها ، في المدن العربية الثلاث ، كيما تبقى تذكرة للآتين من الاجيال التالية . كانت المحمرة من أكثر المدن التي تعرضت بنيتها التحتية لنيران الحرب ، فآثار الحرب كانت بينة على الاحياء والعمارات والطرقات والمصانع تأملت طويلا نهر الكارون ، فعلى شاطئ المحمرة نزف العراقيون الدم حتى الموت ، فالمحمرة شهدت اكثر المعارك عنفا وشراسة بين البلدين ، لايزال ركام الحرب مبعثرا على ضفاف الكارون في المدن الثلاث تلمس البؤس وتشعر بالحزن والاسى وشظف العيش ، غالبية الذين التقينا بهم او تحدثنا اليهم في الاسواق ، كانوا يشكون من الاهمال الحكومي للمنطقة من حيث ضعف التنمية وسوء الخدمات الصحة , التعليم ، الرعاية الاجتماعية ، ويبدون تذمرهم من سياسة التمييز العرقي التي تنتهجها السلطات تجاه شعب الاحواز البطالة هنا بنوعيها البين والمستتر ، شر مستطير ، الشباب المتسكعون يملؤون الارض . الفقر والبطالة توأمان ، والاشد وجعا من هاتين الآفتين، هو محاولة الدولة واصرارها على مسخ الطابع العربي التقليدي للمدن ، وسحق الثقافة العربية عن طريق سياسة التفريس ، وهو المنهج العنصري الذي ظل سائدا منذ القجار والبهلوية ، وازداد تعسفا ووحشية في ظل تسلط رجال الدين وحكم ولاية الفقيه . الحياة العربية بعد التاسعة مساء ، تصطخب بالناس والعربات والاسى .

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *