شكلت الحرب الروسية على أوكرانيا، تداعيات دولية واسعة، دفعت إلى تغييرات في السياسات الدولية ذاتها. إذ تراجع بعض أهم حلفاء الولايات المتحدة عن تأييد الموقف الأمريكي الصارم تجاه العدوان الروسي، وفضلوا الاحتفاظ بمسافة تضمن مصالحهم لدى الطرفين، كما فعلت الهند وباكستان وتركيا، بل وحتى دول الخليج المحسوبة تقليدياً بأنها حليفة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لم تُبدِ اندفاعاً كبيراً نحو تأييد الصرامة الأمريكية تجاه روسيا.
تتسع المتغيرات الدولية التي نشهدها، سواء على مستوى التداعيات الأمنية، التي قد تقودنا إلى ما يخشاه الجميع من حرب عالمية ثالثة، نتيجة سوء فهم أو تقدير لبعض السلوكيات والرسائل السياسية، أو نتيجة تهور لبعض المسؤولين، وتحديداً الروس. ويضاف إلى ذلك تداعيات اقتصادية من المتوقع أن تزداد حدة كلما طالت الحرب الروسية على أوكرانيا، وتشمل هذه التداعيات مسائل الغذاء والطاقة والعمالة والأجور والاستهلاك العالمي، وسواها.
لكن أحد أبرز التداعيات الأمنية-الاقتصادية، كان انفتاح الغرب على الدول المارقة Rogue States، وهو مصطلح صممته الولايات المتحدة منذ سنوات عديدة، لوصف مجموعة من الدول المتمردة على البنية والترتيبات الدولية، وتشمل بالخصوص كوريا الشمالية وإيران وسورية وفنزويلا، وسواها.
حيث أدت الحرب الروسية على أوكرانيا، إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط، مع قلق دولي مشترك، من أن تقوم روسيا باستخدام مصادر الطاقة كتهديد لفرض شروطها على أوروبا، أو أن يستمر استخدام عائدات تلك المصادر في تمويل الحرب الروسية، أو أن يقوم الغرب بفرض عقوبات واسعة على تلك المصادر في ظل عدم القدرة على توفير مصادر بديلة. هذه الاحتمالات تعني حتمياً ارتفاعاً هائلاً في أسعار مصادر الطاقة (النفط والغاز تحديداً)، يؤدي إلى شلل الاقتصاد العالمي بأسره.
وإن كانت الجهود الدولية حتى الآن قادرة على كبح الارتفاع الذي قارب 140 دولار للبرميل الواحد، وإعادته إلى ما دون 100 دولار (حتى تاريخ هذه المقالة)، عبر إقناع بعض المنتجين بزيادة إنتاجهم، والاستمرار في الاعتماد على المصادر الروسية، وسحب المخزون الاستراتيجي الأمريكي، إلا أن هذا الضبط لا يمكن الاعتماد عليه طويلاً، فيما تشير المصادر الغربية إلى احتمال اقتراب سعر البرميل من 200 دولار، بينما تهدد روسيا برفع السعر إلى حدود 300 دولار للبرميل الواحد.
هذه المتغيرات بالغ الأهمية والاضطراب، خلقت قلقاً اقتصادياً عالمياً، من انهيار شبيه بالانهيار الاقتصادي بين الحربين العالميتين، وخصوصاً أن العالم غير مستعد بعد للاستغناء عن المصادر الكربونية من جهة، فيما يحتاج إلى سنوات من إنشاءات البنى التحتية حتى يكون قادراً على استغلال الاكتشافات الجديدة في المتوسط والأطلسي.
هذا ما دفع الولايات المتحدة وبريطانيا، إلى إعادة ترتيب سياستهما الدولية تجاه الدول المارقة (إيران، وفنزويلا)، والسعي لإعادتها إلى سوق النفط الدولية، بهدف كبح الارتفاع الحاد في أسعار النفط، عبر ضخ ملايين البراميل التي تعوض عن النفط الروسي.
لذا يبذل الغرب جهوداً مكثفة لاستعادة الاتفاق النووي مع إيران، وعلى ما يبدو أن إيران استطاعت تمرير كثير من شروطها فيما يتعلق بالعقوبات أو فيما يتعلق بالهيمنة الإقليمية وبرامج التسلح الإيرانية، إدراكاً منها لأهمية اللحظة التاريخية-الاقتصادية، التي خلقها العدوان الروسي على أوكرانيا. بل واستطاعت روسيا هي الأخرى تمرير شروطها بالحصول على استثناءات من العقوبات الغربية تجاه علاقاتها الاقتصادية والعسكرية والنووية مع إيران، بهدف الحصول على موافقها بخصوص الاتفاق النووي الإيراني.
لكن تداعيات هذا الاتفاق، وفي هذا الوقت، وبهذا الشكل، تشير إلى كثير من المخاطر التي يفترض على دول المنطقة أخذها بعين الاعتبار:
أولها: أن الاعتقاد بإمكانية تعويض الخسائر المالية الناجمة عن انهيار أسعار النفط عام 2020، يبدو غير مأمول منه، وذلك في حال استعادة النفط الإيراني والفنزويلي، وربما الليبي.
ثانيها: أن القبول بإيران المارقة، دون أية قيود سياسية إقليمية، يعني السكوت عن مشروعها الإقليمي، وخصوصاً في شرق المتوسط، ما يعني إقراراً بها دولة مهيمنة إقليماً. (يحاول الغرب استجرار قبول دول الخليج عبر تصنيف الحوثي جماعة إرهابية، دون إجراءات حقيقية لمواجهة الحوثي).
ثالثاً: أن رفع الحرس الثوري عن القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية، يعني ترك المجال له لاستعادة دوره في داخل إيران وخارجها، عسكرياً واقتصادياً.
رابعاً: الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة، يشكل دفعة قوية للاقتصاد الإيراني من جهة، ولمشروعها العسكري من جهة ثانية.
هذه المخاطر، تعني، أننا أمام مرحلة بالغة الخطورة، نشهد فيها دولة إيران المارقة، وهي مقبولة غربياً، ومزودة بكثير من الأموال (الشرعية كما وصفها البريطانيون)، ومهيمنة إقليمياً، وبذراع عسكري بالغ الضراوة، يعاد تسليحه بشكل واسع. وعليه فإن المشروع الإيراني سينطلق مرة أخرى من قاعدة أكثر قوة من لحظة الانطلاق السابقة عام 2011. وهنا ستكون وجهته دولاً جديدة في المنطقة العربية، لم تعد الولايات المتحدة ملتزمة بأمنها كما كانت.
بالأساس، لم تلتزم الولايات المتحدة بأمن دول الخليج، كما كان مفترضاً، واعتدت إيران بشكل مباشر أو عبر ميليشياتها الحوثية، أو عبر حزب الله، على أمن السعودية والإمارات والبحرين والكويت. ولا يبدو أنها ستكون ملتزمة بترتيبات أمنية تحمي هذه الدول، بعد توقيع اتفاق نووي مع إيران. فيما تركت سورية والعراق ولبنان واليمن ساحة للاشتغال الإيراني، طيلة العقد الماضي.
كما أن هذا الاتفاق النووي، يأتي بعد أعوام من الاشتغال الإيراني السري على تطوير قدرات نووية عسكرية (بعد انسحاب ترامب من الاتفاق السابق)، وفي وقت ترجح فيه المصادر الأمريكية أن إيران اقتربت أو وصلت إلى نسبة التخصيب المطلوبة لصناعة قنبلة نووية، وأن إيران تتجه الآن إلى صناعة الحاوية (القنبلة) التي ستحمل الحشوة النووية. وهذا مصدر تهديد آخر، لعموم المنطقة، حيث أصبح في جوارنا جار نووي مارق ومقبول دولياً، بل ويتم تمويله من مدخرات مجمدة في الغرب ومبيعات نفط للغرب.
ربما يجادل بالبعض بأن الصورة ليست بهذه القتامة والخطورة، وخصوصاً أن قدرة إيران على التصدير لا تتجاوز اليوم 1.5 مليون برميل، فيما بنيتها التحتية متداعية، ويقبع غالبية الشعب الإيراني تحت خط الفقر. سنقبل بهذا الجدل مؤقتاً، حيث تدرك إيران أن اللحظة بالغة الأهمية، لذا قد نشهد استثمارات غربية في تطوير الإنتاج والتصدير الإيراني فيما يتعلق بالنفط.
لكن المشكلة تبقى قائمة فيما يتعلق بالبنى التحتية والاستثمارات الأجنبية في القطاعات الأخرى، وهي مشكلة ذات شقين، الأول مرتبط بطبيعة القوانين الإيرانية المتصلبة التي لا تسمح بهذه الاستثمارات، وتُلحِق غالبيتها بمؤسسات الحرس الثوري، والشق الثاني متعلق بانعدام الثقة الغربية فيما يتعلق بالاستثمار في إيران (باستثناء موضوع الطاقة بالغ الإلحاح اليوم).
إن استطاعت إيران إدارة هذه المرحلة بشكل براغماتي، فسيكون لدينا جار عدواني بالغ الخطورة، لكن ما يزال هناك شك كبير في قدرة إيران على الاستفادة من المتغيرات الدولية، خصوصاً أن إيران غير معتادة وغير معنية على تشارك المكاسب مع قوى أخرى. هذا النمط قد يقيد قدرتها على الحراك الإقليمي. عدا عن أن كثيراً من القوى الإقليمية تشعر بالقلق من دور إيران القادم، وهو ما قد يدفع إلى بروز تكتل إقليمي يواجه إيران.
بصيغة أخرى، إعادة إيران المارقة إلى البيئة الدولية، يعني إطلاق تنافس/نزاع/صراع إقليمي في الشرق الأوسط، مكانه دول عربية، وضحاياه شعوب عربية.
أعتقد، أننا اليوم، بأمس الحاجة إلى إطلاق منظمة أمنية إقليمية، بأبعاد سياسية وعسكرية وأمينة واقتصادية وثقافية، حكومية ونخبوية معاً، لمواجهة إيران، بشكل مباشر وغير مباشر، دون الاعتماد على أية ضمانات دولية من أي من القوى الدولية المتنافسة. وأعتقد أن ما يساعد على ذلك، بروز تحولات حادة يشهدها النظام الدولي International Order، على مستوى إعادة إنتاج القطبية، وهي مرحلة بالغة السيولة والفراغات الاستراتيجية، تسمح للقوى الإقليمية بتثقيل دورها ومكانتها ومصالحها، وهنا نعتقد أن هذا الدور منوط بمصر والسعودية بالدرجة الأولى، مع الانفتاح على دول إقليمية ذات هموم أمنية مشتركة.
* أكاديمي وباحث في العلاقات الدولية
(مركز الخليج للدراسات الإيرانية)