الغد- د.أحمد جميل عزم*
هناك جدل مستمر بشأن طبيعة العلاقة العربية مع إيران، ومن له الأولوية كخصمٍ؛ "إيران" أم "إسرائيل"، أو هل تكون إيران حليفا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهناك رأي ثالث، يرى أنّه يمكن أن يكون كلاهما "خصما" ودون أولوية لتأجيل أحدهما لصالح الآخر، أو للتحالف مع طرف ضد آخر. وربما يجدر التفكير أنّ الحد من أوراق "اللعب" الإيرانية لا يكون إلا بمواجهة الجانب الإسرائيلي ودفعه للتراجع.
يعكف الجانب الإسرائيلي الأميركي منذ سنوات عدة على ترويج مقولة احتمال التحالف بين دول عربية والإسرائيليين لمواجهة السياسات التوسعية الإيرانية، ثم يجري البناء على ذلك أنّ تأجيل الموضوع الفلسطيني، أو التراجع عن مطالب الحد الأدنى الفلسطينية (دولة على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين)، يمكن أن يكون أمراً خاضعاً للنقاش، وأن القضية التي يبلغ عمرها سبعين عاماً يمكن أن تتأجل قليلاً.
وربما نجحت محاولات اختراق بعض النخب العربية لتقبل هذا الأمر، أو على الأقل قبول فكرة أولوية مواجهة إيران حالياً على أي أولوية أخرى، وهناك نخب "مثقفة" وحتى "دينية" تروّج لمثل هذه المقولات. وما يدعم هذه التوجهات الشعور بالسياسات التوسعية الإيرانية في اليمن، والبحرين، ولبنان، والعراق وغيرها، ما يجعل إيران خطراً قائماً لدول عربية، يُعتقد أن إيران تطوقها بهذا النفوذ، وتتدخل بشؤونها الداخلية خصوصاً بدعم طائفي لجزء من مواطني هذه الدول.
هناك رأي ثانٍ يرفض أن يرى شيئاً من سياسات إيران، مع أنّها جلّية وواضحة، ويغض النظر عن التسهيلات الإيرانية مع سياسات معادية للعرب، أو متواطئة مع السياسات الأميركية، بدءا من حروب العراق الثلاث في الثمانينيات والتسعينيات وحرب 2003، واحتلال الجزر الإماراتية، والهجمات المتتالية في الصحافة الإيرانية التي تبشر بسيطرة على البحرين يوماً، فضلا عن مزاعم إيرانية رسمية بشأن نفوذها في اليمن ولبنان وغيرها.
هناك رأي فيه كثير من المنطق، يرى أنّ الثنائية زائفة، فليس الأمر اختيارا بين إيران والإسرائيليين، كما تحاول واشنطن والحكومات الإسرائيلية أن تروّج، فلا بأس أن تجري رؤية الطرفين على أنهما خصوم في ضوء سياساتهما، وليس واجباً اعتبار أحدهما أولوية.
والأهم من ذلك أنّه لا يوجد منطق في اعتبار الإسرائيليين دعامة ضد إيران. فعلاوة على أن هناك علامات تواطؤ ضمني في بعض الحالات، كما في حالة صفقات الأسلحة الإسرائيلية إلى إيران أثناء حربه مع العراق في العام 1985، (ما سمي إيران غيت، أو الكونترا غيت)، والموقف الإسرائيلي المتفرج إلى حد كبير على التمدد الإيراني في سورية. علاوة على ذلك، فكيف يمكن أن يقدم الإسرائيليون دعما ضد إيران؟ هل هناك نية مثلاً لحرب عسكرية على إيران؟ وحتى في هذه الحالة فهل لدى الإسرائيليين قدرات بشرية أو لوجستية للإسهام بمثل هذا السيناريو شبه الخيالي؟
يلعب الإيرانيون الورقة الإسرائيلية ويلعب الإسرائيليون الورقة الإيرانية، وفي الحالتين هناك تخبط واستقطاب عربي- عربي يؤدي لتحقيق مكاسب للإيرانيين والإسرائيليين على حساب الدول العربية ككل، وعلى حساب فلسطين بشكل خاص.
هناك ربما بعض الدبلوماسيين العرب وبعض العاملين في مراكز أبحاث غربية وعربية، لديهم فكرة أولوية الاستفادة من بعض جماعات الضغط والسياسيين ومراكز الأبحاث المؤيدة للإسرائيليين باعتبارهم مدخلا لمصالح بلادهم في واشنطن، وبالتالي يتقبلون مسألة أن إيران تدعم جماعات فلسطينية، وأنّ الأولوية هي التصدي لإيران صاحبة المشروع النووي ذات الأطماع في المنطقة العربية، بعكس الإسرائيليين الذين تنحصر قضيتهم في فلسطين، كما يُزعم.
الحقيقة أنّ التصدي لسياسات توسعية أمر ضروري سواء أكانت إسرائيلية أم إيرانية، وهناك ما يكفي من أدلة على توسعية الطرفين. ولكن أي تهاون في المسألة الفلسطينية وأي تنازل، وعدم الوقوف بوجه السياسات الإسرائيلية، هو ما ترغب فيه إيران وحلفاؤها لتبرير سياساتها ضد أنظمة عربية، فحتى الحوثيين في اليمن يستخدمون ورقة "الوقوف في وجه المشروع الاستعماري" لتبرير حركتهم المسلحة، تماماً كما أن تضخيم فكرة الخطر الإيراني واعتباره أولوية هو كسب إستراتيجي للإسرائيليين.
*أستاذ مساعد في الدراسات الدولية والعلوم السياسية بجامعة بيرزيت، فلسطين
الأربعاء, 4 ديسمبر 2024