الأحد, 8 سبتمبر 2024

الغوطة الشرقية: فصل جديد في سياسات التطهير العرقي

137 مشاهدة
منذ 6 سنوات
العرب - سلام السعدي في حروب كثيرة، يكون نزوح أعداد هائلة من السكان أمرا “طبيعيا”، أي أنه نتيجة للحرب أو الكارثة وسوف ينتهي بانتهائها. لكن هذا لا ينطبق على سوريا، حيث لا ينزح السكان بل يجري تهجيرهم بصورة قسرية، وتشكل عملية التهجير تلك أداة للحرب وأداة للحكم في ذات الوقت. تأتي الحملة العسكرية على الغوطة الشرقية في إطار استكمال سياسات التهجير القسري التي تصدرت أولويات النظام السوري وإيران بعد التدخل الروسي في العام 2015. فبعد أن تجاوز النظام السوري وإيران التهديد المحدق الذي شكلته الثورة السورية طيلة سنوات، التفتا إلى تأبيد بقاء نظام بشار الأسد من خلال حملات التهجير القسري في محيط المدن الرئيسية التي شكلت حاضنة للاحتجاجات الشعبية بما يجعلها في المستقبل “مناطق آمنة” وحاضنة للنظام. هنالك محاولات جارية لعمليات استيطان جديدة في المناطق التي نجح النظام في تهجير سكانها عبر توطين سوريين لا ينتمون إلى البيئة الشعبية السنية التي سحقها النظام، ويشمل ذلك مواطنين، وربما أجانب أيضا، ذوي خلفيات دينية وطائفية مختلفة. كما يعمل النظام على تحويل الطبيعة الطبقية لبعض المناطق من خلال تحويلها إلى مناطق تجارية أو مناطق سكن منظم فاحشة الثراء تجتذب الطبقة الغنية بصرف النظر عن هويتها الطائفية والدينية. ويجري التركيز على مناطق حساسة لقربها من العاصمة أو من الحدود اللبنانية، حيث تشكل تهديدا على النظام السوري وحزب الله اللبناني. ويشمل ذلك على سبيل المثال لا الحصر كلا من داريا والمعضمية والزبداني ومضايا من خلال العمليات العسكرية، وبساتين الرازي وبعض أحياء جنوب العاصمة التي سيجري تغيير طبيعتها الطبقية بذريعة الإصلاح العمراني. وكذلك الحال في مدينة حمص التي بلغ عدد سكانها في العام 2011 نحو مليون ونصف المليون، فيما لا يتجاوز اليوم نصف مليون نسمة بعد أن هجر النظام السوري سكان الأحياء الشعبية ذات الأغلبية السنية التي كانت حاضنة للثورة. وفق منظور النظام السوري وإيران، أظهرت الثورة السورية الخطر الكبير الذي تشكله التركيبة الديموغرافية الحالية للبلاد على هيمنة نظام بشار الأسد. مكنت شبكة العلاقات الأهلية في المناطق الريفية والأحياء الصغيرة الفقيرة، فضلا عن ضعف وجود الدولة في تلك المناطق، السكان من تأسيس منظومة مقاومة مرنة وفعالة استطاعت بسرعة نسبية انتزاع فضاء عام منافس للدولة السورية الطغيانية. في البيئات الفقيرة التي يسود فيها السكن العشوائي، وحّدت الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية نضال وآمال شريحة عريضة من السكان. عاشت تلك الشريحة طوال عقود، علاقة توتر مع الدولة بسبب طبيعة مناطقها كعشوائيات “غير قانونية” تتعرض منازل سكانها للهدم والتهديد المتواصل، أو بحكم عمل نسبة كبيرة من سكانها كباعة متجولين وأصحاب بسطات ومهن صغيرة تتهم غالبا بأنها غير قانونية وتجري ملاحقتها. كانت تلك البيئة الموسومة بالفقر المدقع وانعدام آمال التحسن الاقتصادي وانخفاض مستويات التعليم وانتشار البطالة مولّدة للعنف في داخلها على شكل شجارات مستمرة بين الشباب وانتشار التجارة غير المشروعة أو على شكل خلافات مع أجهزة الحكومة. وهو ما أعطى شريحة واسعة من سكانها مهارات خاصة في التعامل مع العنف والرد عليه. وقد جعلتها هذه “المزية” في قيادة الاحتجاجات عندما تصاعد عنف الدولة، فشكلت الخطر الأكبر على النظام وقد أوشكت بالفعل على هزيمته قبل أن يأتي التدخل الخارجي. ولكن البيئات الشعبية غير السنية والتي شاركت تلك الأخيرة عقودا من الفقر والتهميش لم تشكل تهديدا لحكم بشار الأسد، وانقسمت بين رافضة للثورة وداعمة للنظام بسبب عقود من سياسات التخويف التي اتبعها مصورا نفسه كضامن لبقاء الأقليات. وبحسب منظور النظام، أكدت الأحداث صحة سياساته وفعاليتها في معركة البقاء. وبالتالي أراد تعميم ما بدا له وكأنه “مناطق حاضنة” امتنعت عن الانضمام للثورة، بل وزجت بشبابها الفقراء للدفاع عن حكم عائلة الأسد وقمع الثورة. هكذا أصبح التخلص من الخطر المحدق به وهو “البيئة الحاضنة” المضادة له من أهم الاستراتيجيات الضامنة لبقائه طويل الأمد، والتي وفرتها فرصة الحرب المدمرة التي يشنها على تلك المناطق بدعم دولي وإقليمي ودون أفق للمحاسبة. هكذا كان تكتيك الحرب المتبع هو التدمير الشامل والحصار القاسي الذي، كما أثبتت التقارير، لم يضعف الفصائل المسلحة التي كانت تدخل الإمدادات العسكرية والغذائية بطرق مختلفة، ولكنه دفع بالسكان للمغادرة. وكذلك الحال مع سياسات القصف اليومي العنيف بكافة أنواع الأسلحة وتعمد تدمير الأماكن السكنية. في الكثير من المعارك اختار النظام الحل العسكري حتى النهاية، وعندما كان يوافق على اتفاق ما لنقل المسلحين، كان الاتفاق يشمل السكان أيضا. إن الهدف الواضح لنظام الأسد وإيران هو تغيير التركيبة السكانية لبعض المدن من جهة، وعلى المستوى الوطني من جهة أخرى. فبعد تهجير الملايين من السوريين وقتل واعتقال نحو مليون واختفاء المئات من الآلاف قسريا، انخفض عدد السكان إلى ما يقارب 16 مليون نسمة فيما كان يقدر بنحو 23 مليونا في العام 2011. في القانون الدولي هنالك تسمية واضحة لعمليات مصادرة أراض وأملاك والتخلص من مجموعة سكانية بخصائص عرقية أو دينية محددة ينظر لها على أنها تشكل خطرا على هيمنة النظام الحاكم سياسيا واقتصاديا. إنه التطهير العرقي.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *