الجمعة, 18 أكتوبر 2024

الثقافة الوطنية تسحق في العراق لصالح الثقافة الطائفية

145 مشاهدة
منذ 6 سنوات
العرب - د. ماجد السامرائي ما حفّزني لكتابة هذه السطور أمران. الأول وصلتني رسالة من صديق يهنئني ويهنئ جميع العراقيين بمرور 6768 عاما على عمر العراق حسب توقيت كيتو البابلي الآشوري. والثاني هو حديث لأحد الزملاء الكتاب العراقيين في إحدى القنوات الفضائية حول ما وصلت إليه الثقافة في العراق من واقع محزن. في تقديري المتواضع فإن شأن الثقافة السائدة هذه الأيام في العراق لم يُعطَ الاهتمام المطلوب بسبب قلة حجم الأدوات الثقافية والإعلامية الوطنية والعربية المستقلة أمام فيضان الوسائل الإعلامية الطائفية داخل العراق، والجهد الضعيف المبذول في خضم تفصيلات الواقع السياسي الراهن، ومواجهة مخاطر العمل الذي تضطلع به الطبقة السياسية الحاكمة في العراق منذ عام 2003 وأحزابها ومنظماتها الدعوية والثقافية والإعلامية وظهيرها الإيراني، مع أن دوافع تلك النتائج السياسية هي فكرية ثقافية بالأساس، هيمنت على الواقع العراقي وفق برنامج متقن ومدروس هجم على العراق كالطاعون من جهات عدة تعاونت واتفقت بصورة مباشرة وغير مباشرة من أجل هدم وإزاحة المقومات التاريخية والمدنية لهذا البلد العظيم، استهدفت الإنسان العراقي وعقله النيّر ومحو مرتكزاته النخبوية قبل مؤسسات دولته العريقة، ولم تعد حكاية القضاء على نظام “دكتاتوري” يمتلك أسلحة دمار شامل مقنعة حتى للأطفال. فهذه الآلاف من السنين من عمر العراق أكدت رموزها المادية مكانة هذا الإنسان وقدراته في العلم والمعرفة، وأنه امتلك قيادات عظيمة (بابلية وآشورية) وصلت في فعالياتها في نشر العلم والحكمة والقانون إلى درجة المزج ما بين الواقع والأساطير، ثم تلاقحت مع الحركات النهضوية الأوروبية والعالمية. وإذا كانت للحديث عن العمق الحضاري الزمني دلالة، فإن عمر الحضارة الفارسية هو 2577 عاما لا يصل إلى نصف عمر الحضارة العراقية. كان البرنامج التدميري الذي استهدف العراق والعراقيين بعد 2003 قد تطلب تنفيذ خطين أساسيين متوازيين. الأول سحق وإزاحة القاعدة المادية البشرية، والثاني الدخول في برنامج إحلال الثقافة البديلة للثقافة الوطنية التي شكلت هوية العراقيين عبر عصور طويلة، عبر أدوات وإمكانيات بشرية وفنية متعددة في ميادين الثقافة والتربية والإعلام، حيث سارعت الجهات الاستخباراتية الإسرائيلية إلى تنفيذ برنامجها السريع بالتعاون مع المحتل الأميركي لتصفية العقل العراقي عبر القتل والتهجير لقوائم مختارة بدقة، والأرقام تعطي دلالات واقعية على هذا البرنامج، فقد قتل داخل العراق 550 عالما، نسبة الشيعة منهم 90 بالمئة حتى عام 2007 إذا كان الحديث عن بعد طائفي لا نحبذه. كما تم تهجير 17 ألف عالم عراقي من وطنهم. كان الغرض هو تنفيذ عملية “هولوكست” عراقي تحضيرا لإحلال الجهلة في المعرفة والعلم والتقنيات الحديثة في مرافق النظام الجديد والذين تدربوا وأتقنوا مظاهر التطرف والتشدد الطائفي والكراهية والانتقام والولاء للآخر الخارجي الذي لا يمت بصلة للعراق. ويبدو أن خمس عشرة سنة من العمل التخريبي الدؤوب كانت كافية لتحقيق متطلبات هذا الهدف الظلامي. وهناك مشاهد مؤلمة لنخب علمية وكفاءات عراقية يتحدثون من خارج البلد وفي دول عربية أو غربية استضافتهم، عن مهاراتهم المهنية وخسارة وطنهم لهم. الخط الثاني الأخطر هو مسار الثقافة الطائفية البديلة للثقافة الوطنية التي تم تأسيسها والتبشير بها عبر الوسائل الإعلامية التي انتشرت في العراق بعد عام 2003 في استغلال لما سمي بالحرية الجديدة. هذه الثقافة مرتكزاتها الأساسية ومنابعها الرئيسية هي “اللاهوت الشيعي” الإيراني الرافض للتقاليد الشيعية في مركز النجف والمستند على مبدأ تصدير الثورة الإيرانية، والتطرف والانعزال الطائفي ومحو ذاكرة العراقيين بتاريخهم الحضاري (بابل وآشور) واستحضار التاريخ الإسلامي المليء بالصراع حول السلطة السياسية لتحقيق أغراض التفكيك والصراع الطائفي، والتشكيك بهوية العراق العروبية، وعزله كجزء من حملة الإجهاز عليه فكريا وعقائديا. فهل يجوز أن يصبح العراق اليوم ميدانا للهوس الطائفي المتطرف المدمر، في حين أن العالم الأوروبي على سبيل المثال لم تتحقق نهضته المعروفة إلا بعد خلاصه من هيمنة الكهنوت الديني وسيطرته السياسية. إن ثقافة الإسلام السياسي قد أدخلت العراق في نفق مظلم من الأحقاد والكراهية، وكانت هناك نماذج من المثقفين قد بشروا للاحتلال الأميركي على سبيل المثال كنعان مكية الذي فلسف برنامج الاحتلال في مقالاته ومواقفه ورواياته السياسية الممنهجة، وقام بتمويل مشروع “الذاكرة العراقية” من جهات أميركية يمينية، وهو الذي قال يوم بدأت الصواريخ الأميركية تدك بغداد وتغتال العراقيين في مارس عام 2003 “لهذه القنابل وقع الموسيقى في أذني إنها أشبه بأجراس تقرع للتحرير في بلد تحول إلى معسكر اعتقال هائل”، ثم تراجع تماشيا مع اعترافات وندم أصدقائه القدامى الزعماء الكبار في أميركا في روايته “الفتنة”، بعد أن لمس واقعيا أن مشروع ولاية الفقيه هو الذي يجب أن يسود كمرجعية فكرية وثقافية في العراق. ولأن السلطة السياسية هي نتاج ثقافي وفكري، فكان لا بد من تطبيق السياسات المعبرة عن هذا النهج عبر خطاب الكراهية والتحريض الطائفي. فالمطلوب تغييب الثقافة الوطنية العراقية وتغييب أدوار المثقفين العراقيين ومساهماتهم المعبرة عن حبهم للعراق مما اضطرهم للهجرة خارج العراق، فلا يسمح بالنشاط إلا لمروجي ثقافة المذهب والطائفة وهم مجموعة من المنافقين ووعاظ الطائفية. كما لا يسمح للفعاليات الثقافية الوطنية لكي تأخذ دورها في حياة الناس. لقد تراجع الإنجاز الثقافي في العراق إلى مستويات سحيقة، ولعل المراقب يتساءل؛ كم مطبوع ثقافي قد أنجز خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وكم مهرجان شعري قد أقيم في عاصمة العراق، وهل من اللائق ببلد كالعراق أن يكون وزير الثقافة فيه وزيرا للدفاع بنفس الوقت. ولا يقتصر تعميم الثقافة الطائفية على مؤسسات الثقافة، بل ينسحب ذلك على المؤسسات التعليمية من خلال هيمنة التعليم الديني على المناهج الدراسية في العراق في كافة المستويات التعليمية وتحقق الربط بين المناهج والمواد التعليمية والدين “الممذهب”، وتم تغيير المناهج التعليمية بإلغاء التاريخ الإسلامي وانتقاء التاريخ الطائفي المذهبي وحذف الشخصيات والزعامات الإسلامية القديمة لترسيخ البعد الطائفي في ثقافة الأجيال العراقية الجديدة. وعلى مستوى الإعلام فقد انتشرت القنوات الطائفية وتم دعمها مباشرة من قبل إيران، فمثلا القناة الرسمية “العراقية” خاضعة لسياسة الحكومة المحكومة من حزب الدعوة الذي لديه قناتان حزبيتان إضافة إلى 60 قناة فضائية مملوكة للأحزاب والميليشيات والمدعومة من إيران، وجميعها تحرض على الكراهية والتطرف والاحتراب الطائفي إضافة إلى 483 صحيفة ومجلة. تنعدم في هذه الوسائل الإعلامية المهنية الصحافية وتقاليدها، إضافة إلى استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في ما أصبح يعرف “بالجيوش الإلكترونية” التي تخدم الزعامات الحزبية خصوصا في فترة الانتخابات، ولا علاقة لها بهموم الناس. وقد جرت محاولات متواضعة من بعض مؤسسات المجتمع المدني المدعومة من منظمات الأمم المتحدة لمواجهة خطاب الكراهية في الإعلام العراقي، لكنها لم تتمكن من التأثير على تغيير سياسات الهيمنة الحزبية. ويبدو أن وسائل الإعلام ومن يقف وراءها وحتى أغلب الإعلاميين لا يدركون بأن التحريض على العنف وتبني خطاب العنصرية والطائفية والكراهية هي جرائم لا تتساقط بالتقادم، ويمكن للمتضررين إثارتها في الزمان والمكان اللذين يناسبانهم، وخير مثال على ذلك ما حصل للصحافيين الروانديين من محاكمة بعد تحريضهم وترويجهم للعنف وللإبادة الجماعية خلال الحرب الأهلية (1990-1993)، حيث حاكمتهم محكمة الجنايات الدولية. وفي غياب مؤسسة حيادية مستقلة ومنظمات مهنية قادرة على الموازنة بين احترام حرية التعبير وحق الجمهور في الإطلاع على المعلومات، وبين تطبيق معايير السلوك المهني من احترام للخصوصية وعدم التحريض على العنف والترويج للعنصرية، ستبقى أغلب وسائل الإعلام العراقية أو المستهدفة للجمهور العراقي إحدى أهم وسائل إدامة العنف والصراع وترسيخ ثقافة الكراهية في هذه البلاد. حالة الثقافة في العراق محزنة وتحتاج إلى جهود استثنائية لمواجهة هذا الطوفان المدمر من قبل النخب الثقافية العراقية والعربية بفضح عناصره ووسائله وأشخاصه وتأكيد دور الثقافة الوطنية اللاطائفية في بناء المجتمع.  

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *