محمود حمدي أبو القاسم*
قال وليّ العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع جريدة نيويورك تايمز، إن خامنئي “هتلر جديد في الشرق الأوسط”، في إشارة إلى السياسات التي ينتهجها النِّظام الإيرانيّ والتي أسهمت بصورة رئيسية في تدمير الدول ودعم الإرهاب ونشر الفوضى في المنطقة. وقد تصادف هذا التصريح مع اتصال للرئيس الإيرانيّ حسن روحاني أكَّد فيه لبشار الأسد استعداد بلاده للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، وكذلك سبق أن أعلن وزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيرانيّ محمد رضا نعمت زاده، بعد تحرير الموصل، استعداد بلاده للمشاركة في إعادة إعمار مدينة الموصل مركز محافظة نينوى بشماليّ العراق، وما بين تصريحات الجانبين اللذين يبدو أنهما على النقيض، ليس لدينا إلا الواقع ليعطينا دليل مصداقية حول طبيعة الدور الإيرانيّ، هل هو إلى جانب التدمير أم الإعمار.
في الواقع لم تشهد المنطقة من إيران على مدى عقود دورًا في جهود إعادة الإعمار، بل على العكس، إلا إذا كانت إيران تقصد من تلك السياسات نقل خبرتها الواسعة في تكوين الميليشيات المسلَّحة ونشر الفوضى والعنف، وهو الأمر الذي تمتلك فيه إيران خبرة واسعة، وهذا ما عبَّر عنه القائد العامّ للحرس الثوري محمد علي جعفري بقوله إن “نقل تجربة الباسيج إلى الدول الأخرى يُعَدّ نجاحًا باهرًا، لأنه نموذج فعّال لمقاومة شعوب المنطقة ونقل الخبرات”، مشيرًا إلى “حزب الله اللبناني ومئات الآلاف من القوات الشعبية المدربة وجيش الحشد الشعبي في العراق، وفي اليمن والدول الأخرى”، ويضيف جعفري أن “تشكيل نوى الباسيج في العالَم” هي وصية الخميني، والواقع أن المنطقة لم ترَ من إيران سوى هذا الجانب، فهل هذا هو الإعمار الذي يقصده روحاني؟
لكن ما البيئة التي سمحت لإيران بأن تقدّم نفسها مشارِكًا في عملية إعادة الإعمار؟ وما الأهداف التي تقف خلف هذا الطموح؟ وهل فعليًّا يمكن لإيران أن تكون مُسهِمًا في عملية الإعمار في دول الجوار لا سيما سوريا والعراق؟
إيران.. عامل تخريب أم إعمار
أحرق نيرون روما وخُطَّته بالأساس كانت إعادة بنائها على الطريقة المناسبة التي يراها، لكنه بعد أن تَورَّط في إحراقها عمَّت الفوضى واحترق معها كل شيء، والواقع أن إيران تَبنَّت سياسة نيرون فأسهمت تدخلاتها في دول المنطقة بصورة رئيسية في نشر الفوضى، ولم تكُن عامل استقرار بقدر ما كانت مِعوَل هدم وتدمير للمقومات الإنسانية والحضارية والمادية في المنطقة.
منذ الثورة الإيرانيَّة وخلال ما يقارب أربعة عقود، لم تُنبئنا تَوجُّهات إيران الخارجية بأنها ذات بعد تنموي إلا بما يخدم مشروع إيران، بل تَبنَّت إيران منذ البداية مبادئ كان مضمونها دعم عدم الاستقرار والتدخُّل في الشؤون الداخلية للآخَرين، ومحاولة فرض نموذجها الثوري وتصديره، وذلك تحت غطاء نصرة المستضعفين وحماية المظلومين، عن طريق مدّ علاقات غير طبيعية مع كيانات داخل الدول وزعزعة استقرارها وإعمال أدوات التخابر والتجسُّس والعنف.
تبنت إيران حزب الله في لبنان فانتهى الحزب إلى قوة عسكرية تختطف الدولة وقراراها السياسي، وتعطِّل المؤسَّسات، ويأخذ قرار الحرب والسلم بأمر من إيران، ليعرِّض حياة اللبنانيين للخطر بلا مسؤولية، وليضع البلد بين حين وآخر على شفا الحرب الأهلية والاحتراب الداخلي، ناهيك بالمغامرات الخارجية التي لا تتوقف من سوريا إلى العراق إلى اليمن إلى البحرين، إلخ، ولتدعم أيضًا بشار الأسد في سوريا، وهو ما جعل سوريا تتحول إلى دولة فاشلة تعاني ويلات حرب أهلية وإرهاب وتَدخُّل دولي وإقليمي غير مسبوق، مِمَّا أخرجها من معادلات التوازن الإقليمي وجعلها عرضة لعملية تقسيم واسعة النطاق، ناهيك بتَعرُّضها لكارثة إنسانية لم يشهدها العالَم منذ الحرب العالَمية الثانية.
وفي العراق أدَّت سياسات إيران إلى دخول البلاد في خندق الطائفية وتجاذبته الميليشيات المسلَّحة وعمَّته الفوضى وانهارت سلطته ونُهبت ثرواته وآثاره وحضارته، بعدما كان قوة يخشى جانبها في المنطقة. وهكذا حدث الأمر في اليمن وتقوم استراتيجية إيران على خلخلة المجتمعات من الداخل عبر ولاء بعض المكونات الداخلية لها، سعيًا لإحداث فوضى داخل الدول يمكن لإيران أن تجد فيها مدخلًا للتدخُّل وتوسعة التأثير والنفوذ.
ولعل أبرز نتائج التدخُّل الإيرانيّ في المنطقة بعد ما يعرف بالربيع العربي، انهيار الدول الوطنية كما حدث في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتَصاعُد موجة الإرهاب بصورة غير مسبوقة، واتساع نطاق الحروب الأهلية في المنطقة، وتوغُّل الفاعلين من غير الدول، وانتشار الميليشيات المسلَّحة، وانتشار الفوضى وعدم الاستقرار.
هنا قد يتساءل البعض: كيف يتصور أن تقوم إيران بدور ما في عملية إعادة الإعمار، وهي سبب رئيسي لهذا الوضع البائس الذي تعيشه المنطقة؟
بيئة مواتية ونفوذ قائم
لم تكُن إيران لتطرح نفسها مساهمًا في إعادة الإعمار، لولا عدد من المعطيات والعوامل التي هيأت لها القيام بذلك، أهم تلك المعطيات أن إيران لديها علاقة عضوية مع بعض الحكومات في المنطقة، كالحكومة العراقية والنِّظام السوري، وهذه العلاقة استراتيجية ممتدة وتشمل مجالات متعددة، لذا لم تطرح مبادرات إعادة الإعمار الإيرانيَّة إلا في سياق العلاقة المتطورة مع هذين النِّظامين.
فإيران أكَّدت نفوذها على الساحة العراقية مبكِّرًا بعد انهيار نظام صدام حسين في عام 2003 من خلال الفصائل الشيعية السياسية والعسكرية، وقد تَعزَّز هذا الوجود بعد الانسحاب الأمريكيّ من العراق في عام 2008، وتعزز أكثر وأكثر بعد أن لعبت دورًا في تشكيل الحشد الشعبي وتدريبه وتسليحه ليكون ذراعها العسكرية، ليس في العراق وحسب ولكن في العراق وتخومه، كما تَعزَّز وجودها العسكري في سوريا من خلال الهيمنة على القرار العسكري السوري، وتبنِّي عدد من الميليشيات العسكرية التي لعبت جنبًا إلى جنب حزب الله دورًا في حماية النِّظام هناك وتمكينه من البقاء في السُّلْطة حتى الآن. مِن ثَمَّ تطرح إيران مبادراتها لإعادة الإعمار في ظل وجود فعليّ لقواتها وشركاتها واستثماراتها ضمن الشراكة الكاملة مع حكومتي العراق وسوريا. هذه الشراكة التي لا تنفك عن وجهة النظر الإيرانيَّة في إعادة هندسة العمران الإنساني والمادي وفق نظرية الولي الفقيه ومقتضياتها ذات الأبعاد التوسعية والساعية للهيمنة والتمكين للمذهب والحلفاء.
ووَفْقًا للواقع الإقليمي فإن إيران قد تأكَّد وجودها على الساحتين السورية والعراقية بقوة بعد تقديم نفسها إلى جانب القوى التي تواجه الإرهاب -مع أنها لعبت دورًا رئيسيًّا في تمدُّده على الساحتين العراقية والسورية- لكن مشاركتها على الأرض في المعارك ضد التنظيم قد سمحت لقواتها وعناصرها بالوجود على هاتين الساحتين، وحققت من خلال هذه المعارك نفوذًا وحضورًا إقليميًّا قويًّا، ومن ثم فهي تطرح نفسها كقوة تحرير من خطر الإرهاب، ومِن ثَمَّ كقوة مشاركة في جني مكاسب هذه المعارك ومن ضمنها الدخول في مجال إعادة الإعمار.
وقد كان انفتاح الساحة الإقليمية أمام التدخُّل الإيرانيّ في ظلّ انتشار حالة من الفوضى وعدم الاستقرار مع غياب المنافسين أو غياب مشروعات بديلة عاملًا رئيسيًّا سمح لإيران بأن تطرح نفسها من البداية كقوة جاهزة ومستعدة، وهذه البيئة الإقليمية الرخوة تَمدَّدَت فيها إيران، وفرضت فيها حضورها السياسي والاقتصادي والعسكري، ومن الطبيعي أن تطرح نفسها كقوة مساهمة في إعادة الإعمار بعد حالة الاستقرار المرتقبة.
كذلك استفادت إيران من توقيع الاتِّفاق النووي مع مجموعة 5+1، فبعد هذا الاتِّفاق ظهر كأن في العالم قبولًا أو تسامحًا مع الدور الإقليمي لإيران، بمعنى أدقّ عدم وجود اعتراضات عليه أو قيود من أي نوع، وهو ما أغراها بضخ مزيد من الاستثمارات العسكرية لتوسيع رقعة نفوذها وبسط هيمنتها على القرارات في بعض العواصم العربية، ولم تجد إيران ردّ فعل على سلوكها التدخُّلي، بل دُعيت القوى الإقليمية إلى التفاهم مع إيران في فترة الرئيس الأمريكيّ أوباما، ولا شكّ أن الانتقال من مرحلة الضغوط والعزلة التي كانت تعاني منها إيران قبل الاتِّفاق النووي، والانتقال إلى مرحلة الانفراج والانخراط، يتناسب معه هذا الانتقال على مستوى الإقليم من مرحلة التدخُّل العسكري وتغيير الواقع بالقوة، إلى محاولة المساهمة في إعادة الإعمار والمشاركة في ترتيبات ما بعد الفوضى التي ضربت المنطقة بما يتوافق مع مصالحها.
وصاحب الاتِّفاق النووي تحرُّر إيران من كثير من القيود الاقتصادية، وتوافرت لديها أرصدة مالية ضخمة تسمح لشركاتها باستثمارات خارجية، وقد كان معرض دمشق لإعادة الإعمار “عَمِّرها” في سبتمبر 2017 شاهدًا على حضور عديد من الشركات الإيرانيَّة المستعدة لهذه العملية، والواضح أن تحرُّرًا سياسيًّا ارتبط بالاتِّفاق النووي، قد صحبته مساعٍ نحو التحرُّر الاقتصادي، وخروج من العزلة السياسية تواكب معه مساعٍ نحو التخلُّص من الانكفاء الاقتصادي والاتجاه لترجمة الواقع بشقيه السياسي والاقتصادي لدور إقليمي ودولي تلعب فيه السياسية إلى جانب الاقتصاد دورًا فاعلًا ضمن استراتيجية إيران في المرحلة المقبلة.
وواقعيًّا تطرح مسألة إعادة الإعمار بعد مراحل تسوية النزاعات، وتطورات الأوضاع على الساحتين العراقية والسورية تؤشِّر إلى تحقيق تَقدُّم نحو التهدئة والاستقرار لا سيما بعد تحرير مدن العراق من قبضة داعش واستعادة النِّظام السوري السيطرة على بعض المناطق من قبضة المعارضة، فعلى الساحة السورية تبدو هناك خطوات على طريق تسوية الأزمة لا سيما بعد التوافق الروسي-التركي-الإيرانيّ وتهدئة الأوضاع بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة التي تُرجِمَت في اللقاء الأخير بين الرؤساء التركي والروسي والإيرانيّ. وعلى الساحة العراقية استعادة الحكومة لسيادتها على المناطق التي استولى عليها تنظيم الدولة، وكذلك المناطق المتنازع عليها مع إقليم كردستان، تؤشر إلى الذهاب نحو مزيد من الاستقرار.
أهداف متعددة وتحديات رئيسية
تسعى إيران لتحقيق مكاسب متعددة من إطلاق مبادرة إعادة الإعمار، فإيران كُلّفت جَرَّاء تدخلاتها في المنطقة تكلفة مادية هائلة، وتسعى من خلال إبرام عقود وشراكات في ما يتعلق بمسألة الإعمار إلى تعويض نفقاتها ومصروفاتها جَرَّاء هذا التدخُّل، فضلًا عما يتيحه ذلك من أرضية لنشر عملائها ووكلائها ليكونوا امتدادًا لدورها وتأثيرها في تلك المناطق. هنا يأتي دور الشركات التابعة للحرس الثوري وعلى رأسها شركة خاتم المرسلين التي وقَّعَت عقودًا ضخمة في العراق وسوريا، فضلًا عن عشرات العقود في مجالات البنى التحتية والاتصالات.
كما أن إيران تطرح هذه المبادرة بالونَ اختبار لحقيقة دورها الإقليمي ومدى مشروعيته داخل الدول التي تلعب فيها إيران دورًا بارزًا، وإن كانت تعكس في مضمونها شعورًا بالفخر على المكاسب الحقيقية التي حقَّقَتها، والتي بلغت حدّ استعدادها للمشاركة في بناء السلام والاستقرار بل وإعادة الإعمار.
كما تفتح حالة الدمار الواسع الذي ضرب المدن العراقية والسورية، وبتعمُّد إيرانيّ حسبما يذهب البعض، الباب واسعًا أمام استثمارات ضخمة في ما يتعلق بإعادة الإعمار، فحجم الدمار الذي خلَّفَته الحرب الأهلية السورية هائل، كما أن العراق ليس استثناءً من تلك الحالة، لا سيما بعض مدنه كالموصل التي شهدت تدميرًا شبه كامل، وتتأهب الشركات الإيرانيَّة لدخول هذا الميدان لحصاد المكاسب الاقتصادية المتاحة، لا سيما في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها البَلَدان.
ويسمح النفوذ السياسي الإيرانيّ على الساحتين السورية والعراقية وعلاقاته المتطورة مع حكومتي البلدين ونفوذه على أرض الواقع لا سيما العسكري، بإفساح المجال أمام الشركات الإيرانيَّة سواء الحكومية أو الخاصَّة من تأمين حضور قوي ولعب دور بارز في عملية إعادة الإعمار، وإن لم يكُن هذا الحضور في كل المناطق فعلى الأقلّ سيكون في المناطق التي تفرض فيها هاتان الحكومتان سيادتهما بشكل كامل، وهذا الحضور الاقتصادي يستهدف تحقيق طموح طهران في تنفيذ مشروعها الإقليمي، الذي يستهدف إعادة هندسة الواقع بمفرداته الاجتماعية والبنائية خدمة لمشروعها ومصالحها، لهذا كانت إيران في معاركها تستهدف إلى جانب التخلُّص من داعش التخلُّص من المكونات والميليشيات المناوئة لها، وتنفّذ عملية تغيير ديموغرافي واسع، وسياسات إعادة الإعمار المطروحة من جانب إيران تستهدف ضمن ما تستهدف إعادة عمران مذهبي وجغرافي متناغم مع توجهاتها وسياساتها، إذ تسمح مشاركة إيران في عملية إعادة الإعمار بشرعنة دورها الإقليمي، وتثبيت حضورها المكثف على الساحتين العراقية والسورية، واستباق أي عملية لتقويض وجودها العسكري الإقليمي بوجود اقتصادي واجتماعي ممتدّ يضمن لها مصالحها ونفوذها، وهذا بجانب ضمان نفوذها في المستقبل، يجعلها شريكًا يصعب تجاوزه في أي ترتيبات إقليمية.
ويحسن هذا الدور الخارجي غير المعتاد صورتها على الساحة الدولية وموقفها وموقعها على الساحة الدولية بوصفها قوة سلام، وذلك في ظلّ اتهامات وانتقادات حادة لدورها الإقليمي وتسببها في حالة الفوضى ورعاية الإرهاب وعدم الاستقرار التي تضرب المنطقة.
قد تكون إيران بصدد البحث عن تعزيز نفوذها الإقليمي من مدخل إعادة الإعمار، فهل تنجح إيران في ذلك؟ في واقع الأمر تواجه إيران صعوبات عديدة في هذا الصدد، لعل أهمها:
أن المشروع الإيرانيّ مشروع مذهبي طائفي، قام على أنقاض المجتمعات وبنياتها المادية والمعنوية وروابطها الاجتماعية، ومن الصعب الحديث عن دور في عملية الإعمار في ظلّ تَبنِّي النِّظام الإيرانيّ هذه السياسات، فلا قدرة على إعمار مادي في ظل سياسات تهدم العمران الإنساني، وما تفعله شركة خاتم المرسلين التابعة للحرس الثوري من إنشاء أحزمة سكانية في دمشق خاصَّة بالعلويين والشيعة ليس إلا تعبيرًا عن هذا المشروع الطائفي الضيق.
أن إيران فقدت أي دعم داخل دول المنطقة العربية إلى من حلفائها الذين يشاركونها مشروعها ومذهبها، ومن ثم لا تزال تواجه صعوبات حقيقية في تحقيق التمكين على الساحات التي انغمست بقوة فيها، وهذا الوضع يمثِّل تحدِّيًا حقيقيًّا لأي دور إيرانيّ تنموي في المستقبل في هذه البلدان، فالوجود الإيرانيّ مرتبط بحالة من عدم الاستقرار واستمرار النزاعات والصراعات، ومِن ثَمَّ يصعب معه نجاح مبادرة لإعادة تهيئة وشرعنة الدور الإيرانيّ الإقليمي من خلال الإعمار.
أن التدخُّل الإيرانيّ في دول المنطقة لم يكُن مؤسَّسًا على علاقة طبيعية مؤسَّساتية بين دولتين، تسمح لهذا الدور بأن يكون مقبولًا من الأطراف كافة، وهو تَدخُّل استند إلى علاقة مذهبية وطائفية، ومن ثم فهو دور تحيط به شبهة الانحياز وهو غير مقبول وليس محل إجماع، وهذا أمر قد يجعل شراكات الإعمار محصورة في ذات النطاق الطائفي والمذهبي.
أن إيران لا تزال تعاني عزلة وضغوطًا قد تعرقل مكتسباتها في أي مرحلة، لا سيما أن دورها الإقليمي محل توجُّس وترقُّب القوى الإقليمية والدولية، التي تتبنى سياسات واستراتيجيات تستهدف تقويض الدور الإقليمي لإيران.
أن مسألة الإعمار تحمل في طياتها مصالح كُبرى وتتصارع عليها قوى دولية رئيسية ويصعب على إيران في ظل هذه الضغوط أن يكون لها نصيب كبير من هذه الكعكة إذا ما استقرت الأوضاع في المنطقة وذهبت باتجاه التهدئة، وهذا التنافس موجود داخل المعسكر الذي تنتمي إليه إيران خلال هذه المرحلة، فما بالنا بالمعسكر المعادي لها!
أخيرًا يمكن القول إن السياسات الإيرانيَّة في المنطقة، لا سيما خلال السنوات القليلة الأخيرة، لم تُسهِم فقط في إحداث تدمير مادي هائل للدول وللبنى التحية والمساكن والخدمات، بل عبثت بالهويات الوطنية وقسمت ولاءات المواطنين في البلد الواحد وَفْق نزعات وانتماءات أولية، مِمَّا أضرّ بوحدة البلدان وتماسكها واندماجها الوطني، فعن أي إعمار تتحدث إيران، إلا إذا كانت نية الإعمار هي تكريس الانقسام وإعادة تهيئة كانتونات وتجمُّعات سكنية يجمعها مذهب واحد وولاء خارجي لولاية الفقيه وأوامره، في حين تبقى البلدان بلا سيادة على كامل ترابها الوطني، وتتنازع سلطتها الحكومات والميليشيات المتمترسة والمتخندقة طائفيًّا ودينيًّا والتي تعمل إيران بكل جهدها على تكوينها وتوسيع انتشارها تنفيذًا لوصية الخميني.
*مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية
المصدر|مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية
الخميس, 21 نوفمبر 2024