على غرار الجدار الإسمنتي الذي بنته تركيا على حدودها مع سوريا لمنع تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني من التسلل للأراضي التركية إضافة لتنظيم حركة مرور طالبي اللجوء، قررت أنقرة بناء جدار آخر سيبلغ طوله أكثر من 70 كيلو مترا على حدودها الشرقية مع إيران، لمنع مقاتلي حزب العمال الكردستاني أو من تصفهم بالإرهابيين من تنفيذ عمليات داخل تركيا انطلاقا من إيران.
رئاسة شؤون التنمية العمرانية التابعة لرئاسة الوزراء ستقوم ببناء الجدار على خمس مراحل وذلك في إطار بروتوكول تم التوقيع عليه بين هذه الرئاسة ووزارة الدفاع التركية، ووفقا لبيان أعلنته الحكومة التركية فإن المرحلة الأولى من الجدار ستنتهي في شهر أكتوبر 2017م كما سيتم انشاء طريق أمني للدوريات العسكرية التي ستعمل خلف الجدار، وسيتم تركيب زجاج مقاوم للرصاص لخمسة عشر بابا على طول الجدار.
يأتي انشاء هذا الجدار في إطار الاستراتيجية التركية التي تستهدف مكافحة حزب العمال الكردستاني، بدأت تتجسد معالمها منذ 2015 عندما أعلنت عن بناء جدار على حدودها مع سوريا لتكثيف الإجراءات الأمنية ضد الجماعات الإرهابية ومكافحة حزب العمال الذي وظف انشغال تركيا بحدودها مع سوريا خلال السنوات القليلة الماضية في توسيع مناطق نفوذه ونشر قواته في المناطق المحاذية لكل من إيران والعراق. هذا الواقع أثار قلق أنقرة من احتمالية تمكن الحزب من التموضع في مواقع جديدة “غير جبل قنديل وسنجار القريبين من الحدود العراقية الإيرانية والحدود العراقية السورية”، وفتح جبهات جديدة للقتال ضد قوات الحكومة التركية.
على الرغم من إعلان وزير الدفاع التركي “فكري إشيق” بأن الجدار الذي تعتزم بلاده تشييده، ليس أمرا موجها ضد إيران، بل هو خطوة من أجل أمن السكان والحدود في المنطقة، إلا أن خطوة بناء الجدار الأمني بين البلدين قد تفسر بأنها اتهام تركي غير مباشر لإيران بالفشل في حماية وضبط الحدود بين البلدين، وبإيواء عناصر من حزب العمال الكردستاني داخل حدودها ويتضح ذلك من خلال إعلان الاستخبارات التركية بأن بناء الجدار جاء بعد رصد ستة معسكرات لحزب العمال الكردستاني داخل الحدود الإيرانية في مناطق: ماكو ودامبات ونافور وكورت وكاناراش وشاهيدان، هذه المعسكرات بحسب ما أعلنت تركيا يوجد بها ما بين ثمانمائة إلى ألف من المقاتلين الذين يستغلون هذه المعسكرات لتنفيذ هجمات داخل الأراضي التركية.
تمتد الحدود بين تركيا وإيران لمسافة تزيد عن 500 كلم من الشمال إلى الجنوب وتقطن فيها أغلبية كردية، وتشتهر هذه الحدود بشدة الوعورة ما يجعل عملية مراقبتها أصعب من الحدود السورية، أما المنطقة التي تعتزم تركيا بناء الجدار عليها فهي أقل وعورة إذا قورنت ببقية المناطق وغالبا ما يستغلها المقاتلون الأكراد في الدخول إلى الأراضي الإيرانية في حال تعرضهم لهجمات من جانب قوات الحكومة التركية.
التقاطع في بعض الملفات والتصادم في ملفات أخرى يعد من السمات البارزة التي تسيطر على علاقات تركيا وإيران خلال السنوات الأخيرة، وهذه الطبيعة المعقدة في العلاقات بين البلدين، جعلت التعامل بينهما تحكمه ضوابط خاصة تحول دون تطور المواضيع الخلافية إلى قطيعة أو إلى صدام مباشر.
فإيران التي تعد مصدرا مهما للنفط والغاز الطبيعي، تعتبر فاعلا مهما في معادلة أمن الطاقة التركي كما أن الطرفين يحتاجان لبعضهما البعض اقتصاديا ويعملان على رفع التبادل التجاري بينهما، فضلا عن ذلك فإن هنالك عوامل جيوسياسية وجيو اقتصادية حتمت على البلدين التقارب في المسائل الاقتصادية، فتركيا تعد ممرا مائيا للبضائع الإيرانية نحو أوروبا، وإيران ممرا لتركيا نحو آسيا.
إضافة لذلك يتقاطع البلدان في القلق من انعكاسات تطورات الملف الكردي في سوریا والعراق، باعتباره تهديدا مشتركا لكليهما، ويشتركان في رفض تقسيم سوريا والعراق، لأن تقسيم هذين البلدين سوف يؤدي إلى رفع مستوى طموح أكراد تركيا أولا ثم أكراد إيران، وهو التهديد المشترك الذي تحاول أنقرة اللعب على وتره لإقناع طهران بضرورة التعامل بحزم مع الطموحات الكردية، والحيلولة دون اللعب بالورقة الكردية في مواجهة بعضهما البعض.
في المقابل شهدت العلاقات بين البلدين توترا كبيرا خلال الفترة الماضية نتيجة للتباين في المواقف ووجهات النظر حيال الملفات الساخنة في المنطقة، وخاصة القضية السورية والوضع العراقي. ووصل هذا التوتر إلى قمته عندما عبر المسؤولون الأتراك عن سخطهم من السلوك الإيراني في المنطقة، بوصفها مسؤولة عن عدم الاستقرار فيها عبر دعم قوى سياسية وطائفية والعمل على نشر النعرات المذهبية بين السنة والشيعة. كما عبرت تركيا عن رفضها التام للأطماع الإيرانية في سوريا والعراق واليمن.
تركيا التي تخوض حربا ضروس ضد حزب العمال الكردستاني منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أعلنت أن الجدار الإسمنتي سيتم بناؤه على طول الحدود المتاخمة لمدينتي آغري واغدير غربي تركيا، بطول 70 كيلو مترا. وبعد اكتمال الجدار ستقوم السلطات التركية بإغلاق بقية المنطقة الحدودية بالأبراج والأسوار الحديدية، كما ستضع أعمدة للإضاءة وستثبت كاميرات المراقبة على طول الطريق السريع بين مقاطعة تونجيلي الشرقية ومقاطعة إيلاغج المجاورة، فيما ستبقى الأنشطة على طول الحدود تحت المراقبة على مدار 24 ساعة يوميا كجزء من الإجراءات الاحترازية لمنع تسلل عناصر حزب العمال الكردستاني.
طهران المتهمة بتوفير معسكرات لحزب العمال الكردستاني داخل أراضيها، رحبت بعزم تركيا بناء جدار أمني بين حدود البلدين، وذلك لإبعاد أي تهمة من شأنها تأزيم علاقاتها مع أنقرة. وفي هذا الصدد قال الناطق الرسمي باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي أن بلاده ترحب بكافة المبادرات التي تجعل الحدود بين البلدين أكثر أمنا وأشار إلى أن السلطات التركية أبلغتهم حول خطة بناء الجدار الحدودي ولفت إلى أن الجدار سيتم بناؤه داخل الأراضي التركية، وليس على الخط الحدودي مباشرة.
رغم الموافقة الضمنية الإيرانية على انشاء الجدار لكنها موافقة تحمل في طياتها لغة حذرة، حيث أعرب المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عن أمله في أن يتم إجراء مزيد من المباحثات مع الجانب التركي حول بناء الجدار الأمني، وطالب أنقرة بضرورة إبلاغ طهران بأي إجراء حدودي يهدف لاستتباب وبسط الأمن على الحدود بين البلدين.
ونفت طهران أن يكون حزب العمال الكردستاني قد نفذ أي عملية ضد القوات التركية انطلاقا من أراضيها وبررت تعاطيها الإيجابي مع الجدار والاكتفاء بضرورة التنسيق معها بأن الجدار التركي سيخدم أمنها واقتصادها كذلك، لأن الحدود بين البلدين هي عبارة عن منطقة جبلية وعرة يستغلها بعض المهربين في تهريب البضائع التركية إلى داخل إيران كما يستغلها بعض الإيرانيين كمنفذ للهجرة إلى تركيا، واعتبرت أن الجدار سيحول دون اختباء الجماعات المسلحة الإيرانية في السلاسل الجبلية الممتدة على طول الحدود.
لكن بعض المراقبين يرون أن إيران كانت تستخدم الورقة الكردية بهدف الضغط على أنقرة لتحقيق بعض الأهداف في سوريا والعراق، لكن هذه الورقة لم تعد مجزية في ظل الطموحات الكردية المتصاعدة في العراق وسوريا فضلا عن خشيتها من أن تساهم هذه الطموحات الانفصالية في تحريك رغبة الانفصال لدى الأكراد الإيرانيين. وقد بدأت بالفعل هذه الرغبة بعد أن نفذت الجماعات الكردية المناهضة للسياسات القمعية التي يتبعها النظام الإيراني ضد الأكراد عددا من العمليات ضد قوات الأمن وقوات الحرس الثوري خلال الأشهر القليلة الماضية.
وحول جدوى هذا الجدار يرى المراقبون أنه ربما يسهم في السيطرة على الحدود بين البلدين لكنه لن يخمد الحروب المشتعلة بين حزب العمال الكردستاني” PKK” والقوات التركية منذ 1984.
فيما ترى الحكومة التركية أن الجدار لن يكون حلا نهائيا وكاملا لكنه جزء من الحل الذي سيسهم في الحد من الاختراقات الأمنية وسيؤدي إلى ضبط جزء من الحدود الطويلة بين البلدين.
خطوة بناء الجُدُر التي بدأت تركيا في انتهاجها على حدودها مع كل من سوريا وإيران، قد تمثل بداية تركية جادة لتطويق حزب العمال الكردستاني من كافة الاتجاهات ووأد الطموح الكردي المتصاعد هذه الأيام لتأسيس وطن كردي مستقل.
مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية
الخميس, 21 نوفمبر 2024