[1].
وينطلق مفهوم الدور من تصوّر أن تعامل الوحدة الدوليّة مع بقية الوحدات في المحيطين الإقليميّ والدوليّ معًا يتطلب أن تحدّد تلك الوحدة -ذات الهدف السلبيّ أو الإيجابيّ- لذاتها وللآخرين الوظيفة [أو الوظائف] الرئيسيّة التي تؤدّيها بشكل منتظم في هذا النسق الدوليّ، سواء كان إقليميًّا أو عالميًّا، وماهية العَلاقات الدوليّة الرئيسيّة للوحدة، خصوصًا في دائرة المجالات الحيويّة لتلك الوحدة، وهو ما يعبَّر عنه بالدور الذي تؤدّيه الوحدة في النسق الدوليّ ويصير أحد مكوّنات سياستها الخارجيّة. ويشتمل الدور الخارجيّ سواء السلبيّ أو الإيجابيّ[2] للوحدة الدوليّة على أربعة أبعاد:
البُعد الأول: تصوّر صانع السياسة الخارجيّة لمركز الوحدة [معدّل القوّة الشاملة -National Total Power- الجغرافيّة والبشريّة والعسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعنويّة والتقنيّة] في النسق الإقليميّ والدوليّ، والمستوى الجغرافيّ الذي يوجد فيه هذا المركز. ويقصد بذلك تصوّر صانع السياسة الخارجيّة للمجالات الرئيسيّة التي تتمتّع الوحدة فيها بالنفوذ، ودرجة النفوذ والقوّة التي تتمتّع بها الوحدة الدوليّة في هذا المجال، فقد يتصوّر صانع السياسة الخارجيّة لهذه الوحدة أن المجال الرئيسيّ لدوره هو المستوى الإقليميّ أو المستوى العالميّ أو الاثنان معًا، وفي كل مستوى يقدم تصوّرًا لدرجة التوسع والنفوذ المتوقعة[3].
البُعد الثاني: تصوّر صانع السياسة الخارجيّة للدوافع الرئيسيّة للسياسة الخارجيّة للوحدة الدوليّة، وتتفاوت تلك الدوافع ما بين دوافع صراعيّة آيديولوجيّة أو براغماتيّة أو تعاونيّة، ومدى عقيدة وإيمان تلك الدولة بدورها في الإقليم أو على المستوى العالميّ، وتصوّره أيضًا تجاه الوحدات الدوليّة الأخرى ومعدّل قوّتها وقدرتها على التصدّي والمقاومة، وتصوّرها لقدرات الدول الأخرى ذات المصالح الاستراتيجيّة في الدول المعنيّة بدورها[4].
البُعد الثالث: تصوّر صانع السياسة الخارجيّة للبيئة الاستراتيجيّة التي يتفاعل فيها من منطلق ذاتيّ مع دول أخرى أو أطراف أخرى لخدمة مصالحها وأجندتها في الإقليم، وتتألف هذه البيئة من سياق داخليّ وآخر خارجيّ، وظروف، وعَلاقات، وتوجّهات، وقضايا، وتهديدات، وفرص، وتفاعلات، ونتائج تؤثر في نجاح الدولة في عَلاقاتها مع العالم الماديّ ومع الدول والأطراف الأخرى، كما تضمّ عاملَي المصادفة والمستجدّات المستقبليّة المحتملة[5].
البُعد الرابع: توقعات صانع السياسة الخارجيّة لحجم التغير المحتمل في النسق الإقليميّ والدوليّ نتيجة أداء وظيفته، سواء السلبيّة أو التعاونيّة في الإقليم أو العالم في ظل سيادة متغيرات وتحالفات ومواقف إقليميّة ودوليّة معيّنة، تساعده أو تعرقله في تنفيذ استراتيجيّة لتحقيق دوره المرجوّ في نطاق مشروعه وأجندته[6].
وبالإضافة إلى هذه الأبعاد الثلاثة التي يمكن انطلاقًا منها التمييز بين مختلف أدوار السياسة الخارجيّة، فإنّ مفهوم الدور يتميز بالخصائص التالية:
الأولى: يتطلب أداء الدور إنفاق موارد معينة حسب حجم الدور المرجوّ. ومِن ثَمّ فكلما اتسق الدور مع قدرات الدولة، ازدادت فعاليته وإمكانية استمراريته. فإذا زادت مساحة الدور عن مقدّرات الدولة، زادت احتمالات انهياره شريطة مواقف جادة وتحركات مضادة لوحدات دوليّة أخرى في الإقليم، وإلا استمر الدور رغم ازدياد مساحته عن قدرات الدولة، كما حدث في حالة الدور العالميّ السوفياتي في حقبة الحرب الباردة والدور الإيرانيّ الحاليّ في المنطقة. وكلما قلّت مساحة الدور عن مقدّرات الدولة، فقدت الدولة فرصًا لتعظيم مصالحها ودورها إقليميًّا ودوليًّا، كما يحدث في حالة الدور اليابانيّ العالميّ المحدود[7].
الثانية: العامل الأساسيّ الذي يؤثر في تكوين الدور الخارجيّ للدولة هو مفاهيم وتصوّرات صانعي السياسة الخارجيّة، فهذه الرؤى والتصوّرات هي المحدّد «المباشر» للدور الخارجيّ. ولكن في تحديده لدور الوحدة الدوليّة فإنّ صانع السياسة الخارجيّة يتأثر بعدد من المتغيرات الأخرى، لعل أهمّها توقعات القوى الكائنة في البيئة الخارجيّة الإقليميّة والدوليّة للدور الذي قد تقوم به الوحدة الدوليّة. هذا بالإضافة إلى أنّ شكل البنية القطبيّة يؤثر في الدور الخارجيّ للوحدات الدوليّة، كما أنّ تحديد
صانع السياسة للدور الإقليميّ يتأثر بميزان القوى بين الوحدة الدوليّة وحلفائها على الصعيدَين الإقليميّ والدوليّ والوحدات المتعاملة معها، وبموقعها الجغرافيّ، وبحجم مقدّراتها الاقتصاديّة والعسكريّة، وحجم المشكلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تواجهها الوحدة الدوليّة[8].
الثالثة: استنادًا إلى التصنيف الذي قدّمه المُنظِّر السياسيّ الفنلنديّ رودولف هولستي سنة 1970، يمكن أن نصنف أدوار الدول طبقًا لمعيارين، هما: مضمون الدور، هل هو صراعيّ أم تعاونيّ أم محايد، ومدى قوّة النشاط الذي تقوم به الدولة في إطار هذا الدور، هل تتدخل بإيجابيّة للقيام به أم أنها تضطلع بدور سلبيّ وتوكل للآخرين مُهِمّة القيام بمعظم أنماط الدور[9].
2- أنماط الدور: دَرَجَ مُنَظِّرو العَلاقات الدوليّة على أنّ هناك مجموعة من الأدوار التي تلعبها الدولة على المستوى الإقليميّ أو الدوليّ، سواء الأدوار الـتي تفرضها الظروف أو الإمكانيات أو المكانة. ويمكن حصر مجمل هذه الأدوار في:
أ- الأدوار ذات العَلاقة بالشؤون الداخليّة للدول: تبرز في دور المستقلّ النشيط وصانع التنمية الداخليّة وحامي السيادة:
(1) المستقلّ النشيط [Proactive Independent]: يدور حول مفهوم الاستقلال الوطنيّ من خلال تطبيق سياسة خارجيّة فعالة قائمة على خدمة المصالح الوطنيّة عن طريق اتباع برنامج نشيط لتكثيف وتنويع العَلاقات الدبلوماسيّة والتجاريّة مع كل الوحدات الدوليّة دون استثناء واحترام الشؤون الداخليّة للدول الأخرى ونبذ التوسع.
(2) صانع التنمية الداخليّة [Internal Development Maker]: يتبادر إلى ذهن صانع السياسة الخارجيّة أن دولته مسؤولة أو وظيفتها الأساسيّة هي التنمية الداخليّة وتحقيق مستوى اقتصاديّ عالٍ وخفض البطالة وتحسين حياة المواطنين، وأن لا تنغمس في الشؤون السياسيّة الإقليميّة والدوليّة إلا وفق ما تفتضيه حاجتها التنمويّة بالتعاون الإيجابيّ لا السلبيّ.
(3) حامي السيادة [Protector of Sovereignty]: يعتقد صانع السياسة الخارجيّة أن وظيفته تنحصر في حماية دولته وضمان سلامة ترابها الوطنيّ من أي عدوان خارجيّ، لا أن تتدخل وتتوغل في الوحدات الدوليّة الأخرى لتحقيق مكتسبات وخلق مناطق نفوذ. ويرتبط عادة هذا الدور أكثر بالـدول الـتي تعيش حالـة عدم الاستقرار وفقدان الإحساس بالأمن[10].
ب- الأدوار المرتبطة بدولة المبادئ والسلام: تتبنى الدولة في سياستها الخارجيّة مجموعة من الأدوار المتعلقة بتحقيق مبادئ ساميَة مكرّسة للسلام العالميّ ولخدمة الإنسانيّة. ونجد منها:
(1) المعادي للاستعمار [Anti – colonialism]: الدول التي عانت من تجرِبة استعماريّة قاسية أو خاضت حربًا من أجل التحرر، تشعر عادة بمسؤوليّة تجاه الشعوب المستعمرة، فتقوم بتقديم مساعدات ذات طبيعة غير محدّدة لحركات التحرر وتأييدها معنويًّا، دون التزام رسميّ واضح، لا أن تمارس نفس الأدوار الاستعماريّة التوسعيّة إقليميًّا وعالميًّا[11].
(2) الوسيط [Mediator]: إنّ وزن ومصداقيّة بعض الدول يؤهّلها للقيام بدور الوساطة والتوفيق بين الوحدات الدوليّة المتنازعة لتخفيض معدّل الصراع ورفع معدّل التعاون ليعُمّ الأمن والاستقرار، مما ينعكس إيجابًا على الأوضاع الأمنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الإقليميّة والدوليّة.
(3) صانع السلام [Peace Maker]: تشعر الدولة بأنه يقع على عاتقها مسؤوليّة مثاليّة تجاه العالم الخارجيّ، تتمثل في دعم وإرساء السلام سواء داخل الوحدات الدوليّة في المناطق المجاورة لدولته أو حتى على الصعيد الدوليّ، وهذا مغاير تمامًا لصانع الأزمات لتفشي الصراعات والاقتتال بالدول المستهدفة بهذا الدور.
(4) المساعد على التنمية [Developer]: فصانع السياسة الخارجيّة يتصوّر وجود مسؤوليّة تقع على عاتق الدولة تتمثل في مساعدة الدول المتخلّفة على تحقيق التنمية، وهذا مغاير تمامًا للمساعد على العنف والتطرّف وتعميق الطائفيّة في الشؤون الداخليّة للدول على نحو ينهكها ويستنزف قواها[12].
ج- الأدوار الإقليميّة: ترتبط بمجموع الأدوار التي تؤديها الدولة على الصعيد الإقليميّ سواء في تعاملها مع الإقليم ككل أو في تعاملها الثنائي مع دول الإقليم، كل على حدة:
(1) الحليف المخلص [Faithful Ally]: يلتزم صانع السياسة الخارجيّة بتأييدٍ مطلـق لسياسات دولة أخرى داخل الإقليم الذي تنتمي إليه الدولة، سواء السياسات الداخليّة أو الخارجيّة. ومن هنا يصبح حليفًا مخلصًا.
(2) المُدافع الإقليميّ [Regional Protector]: يشعر صانع السياسة الخارجيّة بمسؤوليّة دولته في حماية المنطقة التي توجد فيها دولته من أي عدوان خارجيّ يمكن أن تتعرض له، بعكس المهاجم الإقليميّ الذي يسعى إلى التدخل والتوسع واحتلال بعض الأراضي من الدول المجاورة.
(3) قائد التكامل الإقليميّ [Commander of Regional Integration]: يتصوّر صانع السياسة الخارجيّة أن دولته مسؤولة عن توحيد مجموعة الدول التابعة للإقليم الذي توجد فيه الدولة في دولة واحدة، لا الانشقاق الإقليميّ وخلق بؤر توتر في كل أرجائه.
(4) نموذج الهيمنة الإقليميّة [Regional Domination Form]: يُنسب هذا النموذج إلى دافيد مايرز الذي يتناول مفهوم الهيمنة الإقليميّة، ويحدد فيه ثلاثة أدوار تصبّ حوله:
أ- المهيمن الإقليميّ [Regional Dominant]: تمتلك هنا الدولة قوّة كافية للسيطرة على النظام الإقليميّ بحيث يصبح تابعًا لها، توجّهه كما تشاء، لا أن تفرض نفسها مع عدم امتلاكها القوّة الكافية لذلك.
ب- المتطلّع إلى الهيمنة [Aspiring for Domination]: في هذه الحالة نجد أن الدولـة تسعى إلى امتلاك قوّة كافية للسيطرة على النظام الإقليميّ دون التوسع والتدخل.
ج- المهيمن المحتمل [Potential Dominant]: وهو الوحدة التي لها القدرة على السيطرة على الإقليم الذي توجد فيه مستقبلًا، وذلك بالتغلب على جيرانها من القوى الإقليميّة الكبرى، مع ضرورة توافر إدراك قويّ بنفسها كقوّة إقليميّة، كما يفترض هولستي[13].
ثانيًا: مساحة الـدور الإيرانيّ في سوريا
في ضوء المقاربة النظريّة السابقة، يرتبط الدور الإيرانيّ بالسلوك الخارجيّ للدولة الإيرانيّة في الدوائر الجغرافيّة المحدّدة من قِبَل صنّاع القرار الإيرانيّ بتقديم الدعم الماليّ والسياسيّ والعسكريّ لفصيل ما موالٍ لإيران داخل حدود وحدة دوليّة ما، ضد فصيل آخر غير موالٍ بتلك الوحدة، في ضوء تصوّراتهم ومعتقداتهم لطبيعة دورهم في تلك الدوائر الداخليّة والإقليميّة والدوليّة، ويمكن تحديد الدور الإيرانيّ في سوريا وتوصيفه ضمن الأدوار ذات العَلاقة بالشؤون الداخليّة للدول، أو ضمن الأدوار الإقليميّة بعد بيان الدوافع والممارسات الإيرانيّة في سوريا.
ثمة جملة من الدوافع تكمن وراء صنّاع القرار الإيرانيّ لممارسة دور في سوريا رغم ترديدهم مقولات مثل الدفاع عن الشيعة وحماية المراقد الشيعيّة والمزارات، منها:
الأول: استراتيجيّ/سياسيّ، لتوسيع دائرة النفوذ الإيرانيّ في المنطقة، مستغلّة في ذلك غياب ما يسمى بالدولة «الدور»، نتيجة سقوط نظام صدام حسين إبان الغزو العسكريّ الأمريكيّ 2003، ومستغلّة أيضًا الضعف العربيّ نتيجة الأوضاع السيئة التي تمرّ بها المنطقة منذ عام 2011 من موجات ثوريّة وحروب أهليّة واضطرابات أمنيّة حالت دون وجود ما يسمى بالدولة الـ«رادعة»، وترك كل ذلك مساحة كبيرة «فراغ» أتاح فرصة استراتيجيّة لإيران لتمرير مخططاتها في الدول المستهدفة لكي تصبح رقمًا في المعادلة الإقليميّة لا يمكن تجاوزه، وتوفير أوراق ضغط قويّة تمكنها من المساومة بقوّة حيال أيّ مستجدات تتعلق ببرنامجها النوويّ في ظل السياسات الغربيّة المتقلّبة[14]. ويشكّل الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط حلمًا إيرانيًّا باعتبار أنّ إيران تعتمد في اقتصادها على تصدير الغاز الطبيعيّ إلى الأسواق العالميّة والأوروبيّة التي تُعَدّ السوق الأولى من حيث حجم الاستهلاك، خصوصًا في ظل الانخفاض الحادّ في أسعار النفط الخام خلال الأعوام الماضية، وزاد في هذه الرغبة اكتشاف حقول غاز غنيّة في منطقة البحر المتوسط، بالإضافة إلى حقول الغاز الغنيّة في سوريا وأهمّها في منطقة تدمر[15].
وتخدم سوريا استراتيجيّة إيران في المنطقة، فهي تمثل الرابط الحيويّ ما بين طهران وحزب الله، كما تؤمّن سوريا لطهران الدفاع عن ممرات عبور السلاح للحزب في لبنان من ناحية، والتصدّي -وفقًا للاستراتيجيّة الإيرانيّة- للمحور الإقليميّ العربيّ الذي يهدف إلى احتواء المجال الجيو-سياسيّ المتزايد لإيران من ناحية أخرى، فسوريا تُعَدّ بمثابة القلب بالنسبة إلى الاستراتيجيّة الإيرانيّة[16]، وما تصريح المفكّر الإيرانيّ مهدي طيب إلا دليلًا ذلك، إذ قال: «إذا هاجمنا الأعداء وكانوا يريدون أخذ سوريا أو محافظة خوزستان، فإنّ الأولوية هنا المحافظة على سوريا، فإذا حافظنا على سوريا معنا فإن بإمكاننا استعادة خوزستان أيضًا، ولكن إذا فقدنا سوريا فلا يمكننا أن نحافظ على طهران».. و«سوريا هي المحافظة الإيرانيّة رقم 35، وإنّ أهمّيتها الاستراتيجيّة أكبر من أهمّية إقليم عربستان [الأحواز] بالنسبة إلى إيران».
الثاني: آيديولوجيّ/مذهـبيّ، بوقوعها في عمق الهلال الشيعيّ المذهبيّ الذي يمتدّ من العراق مرورًا بسوريا وصولًا إلى لبنان فالخليج العربيّ، وتطوّر هذا المشروع التوسعيّ خلال فترتَي حكم الرئيس السابق أحمدي نجاد [2003-2013] بتدشينه ميثاق الأفق العشرينيّ الذي تأسس على قاعدة مذهبيّة لتحويل إيران بحلول عام 2025 في الإقليم إلى «الدولة فوق الإقليميّة»، وحُدّد الإقليم في الميثاق بـ«منطقة جنوب غرب آسيا»، التي تشمل كلًّا من الشرق الأوسط ودول الجوار كدائرة حيويّة أولى، تليها آسيا الوسطى والقوقاز، وتقع سوريا في عمق الشرق الأوسط[17].
ولم يعُد الدور الإيرانيّ في سوريا وفلسفته في سوريا في حاجة إلى أدلّة وبراهين، خصوصًا أن إيران لم تعُد تخفي دعمها غير المحدود للنظام السوريّ من خلال المساعدات العسكريّة المباشرة، فكل المعارك الكبرى التي يخوضها النظام السوريّ يخطّطها ويوجّهها الحرس الثوريّ[18]، ويقدّر عدد القوّات الإيرانيّة في سوريا نهاية عام 2016 بنحو 8 آلاف مقاتل من الحرس الثوريّ فقط، يتوزعون في بؤر التوتر ومناطق النزاع، خصوصًا في دمشق وريف دمشق واللاذقية، لكسب الحرب وميل المعادلة لصالح إيران-سوريا الأسد. والحديث هنا عن قائد فيلق القدس بالحرس الثوريّ الجنرال قاسم سليماني الذي يتنقل ما بين العراق وسوريا، والعميد إسماعيل قاآني نائب سليماني في قوّة القدس الذي يتولى قيادة قوّات الحرس في معارك ريف حلب، والعميد قاسم رستمي، القائد السابق لمقر «خاتم» التابع لقوّات الحرس ووزير النفط في ولاية الرئيس الإيرانيّ الأسبق أحمدي نجاد، وتكمن مهمّته القتالية في قيادة الإسناد الحربيّ في سوريا… إلخ. وفي المقابل بلغ عدد القتلى من هؤلاء القادة منذ بداية التدخل الإيرانيّ في سوريا 2011 أكثر من 1000 قتيل، بحسب ما أوردته صحيفة «تسنيم» الإيرانيّة المقربة من الحرس الثوري[19].
وقد تضاربت المعلومات في ما يتعلق بالدعم الإيرانيّ الماليّ للنظام السوريّ والميليشيات، فبينما قدّر خبراء في مركز فارس للدراسات الشرق-أوسطية قيمة المبالغ الإيرانيّة المدفوعة لنظام الأسد نقدًا وتسليحًا وتجهيزًا وتدريبًا بـ15 مليار دولار سنويًّا، بالإضافة إلى مليارَي دولار للميليشيات القادمة من العراق ولبنان وغيرهما، قدرت صحيفة «ساينس مونيتور» الأمريكيّة الدعم الإيرانيّ الماليّ المقدم للنظام السوري بـ35 مليار دولار سنويًّا[20].
معظم أحياء العاصمة دمشق، ومحافظتا طرطوس واللاذقية الساحليتان، ومحافظة السويداء الجنوبية، ومدينة حماة وأجزاء من ريفها الغربيّ، ومدينتا حلب وحمص ودرعا المدينة، وأجزاء واسعة من ريف اللاذقية الشمالي، ومدن الغوطة الغربيّة كقدسيا والهامة وخان الشيح، كما تمكنت تلك الميليشيات من التقدم في جزء من الغوطة الشرقية.
وتسهر إيران على تحشيد الميليشيات مثل: مجموعة «زينبيون» وهم الشيعة الباكستانيون القاطنون في إيران، وفرقة «فاطميون» وهم الشيعة الأفغان القاطنون في إيران، بالإضافة إلى السماح لحزب الله اللبناني بالمشاركة القويّة الفعالة بجانب قوّات الأسد بكل بؤر التوتر والصراع مع المعارضة السوريّة أو المناطق الحيويّة ضمن المخططات الإيرانيّة، إذ برز الدور الكبير لميليشيات حزب الله خلال معارك السيطرة على مدينة القصير، فالسيطرة على تلك المدينة مثلت مصلحة استراتيجيّة كبيرة لإيران، لأنها تربط بين دمشق وحمص والساحل السوريّ بمناطق نفوذ حزب الله بلبنان، ومن العراق حشدت إيران ميليشيات «حزب الله» العراقي و«عصائب أهل الحق» وفيلق ميليشيات «أبو الفضل العباس» و«ذو الفقار» وكتائب «سيد الشهداء» وسرايا «خراساني وحركة «النجباء»، وتشكّلوا من قِبَل قوّات الحرس الثوري الإيرانيّ[21].
وتشير التقديرات إلى أن عدد أعضاء تلك الميليشيات التي درّبتها إيران في ثلاثة معسكرات: «الإمام علي» شمال طهران، و«أمير المؤمنين» غرب طهران، و«مرصاد» شيراز الذي يُعَدّ من أهمّ مراكز تدريب المقاتلين الأجانب، نحو 40 ألف مقاتل غير عسكريّ، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أن أعدادهم 60 ألفًا، كما أعلنت في أغسطس 2016 عن تشكيل قوّات عسكريّة شيعيّة عابرة للحدود تحت عنوان «الجيش الشيعيّ الحرّ» بقيادة قاسم سليماني، مقرّها سوريا [ويتكوّن من: «فاطميون» و«زينبيون» و«حيدريون»، ويضم شيعة العراق، وهناك لواء «حزب الله» لاكتمال تنفيذ مخططاتها][22].
ثالثًا: الـقدرات القوميّة للـدولة الإيرانيّة
يُقصد بالقدرات القوميّة حجم ومستوى الإمكانات المتاحة للدولة، وهو ما يعبّر عنه في أدب العَلاقات الدوليّة بعناصر قوّة الدولة. ويثير تحليل المقدّرات القوميّة ثلاثة موضوعات رئيسيّة هي: العناصر التي تكوّن المقدّرات القوميّة، إذ تتآلف المقدّرات القوميّة من تفاعل عنصرين رئيسيّين هما: حجم الموارد [الموقع الجغرافيّ، الموارد الاقتصاديّة، القدرات العسكريّة، والثقافيّة، والتجانس السكانيّ]، ومستوى التحديث، ويثير العنصر الأول قضيّة حجم الدولة [كبيرة أو صغيرة] بينما يثير الثاني قضيّة مستوى تطوّر الدولة [متقدّمة أو متخلّفة]، وأشكال المقدّرات، وآثار المقدّرات القوميّة على السياسة الخارجيّة للدولة[23].
وقد يتبادر إلى الذهن أنه كلما زادت المقدّرات القوميّة للدولة، ازدادت فعاليّة سياستها الخارجيّة ودورها، بيد أن ذلك التصوّر قد لا يكون صحيحًا في كل الأحوال. فامتلاك الدولة للمقدّرات قد لا ينعكس بالضرورة على قدرتها أو رغبتها في تحقيق أهداف سياستها الخارجيّة ودورها، كما أن الدولة قد لا تمتلك إلا قدرًا محدودًا من المقدّرات القوميّة، ولكنها قد تستطيع أن تحقق أهدافًا سياسيّة خارجيّة تفوق ما تؤهّلها له تلك المقدّرات إذا ما توفر عنصر الإدراك لصانع السياسة في تلك الدولة، وإذا ما طبقنا تلك القاعدة على إيران ومقدّراتها القوميّة وعنصر الإدراك لدى صانعي القرار الإيرانيّ، سنجد ما يلي:
1- جيو-استراتيجيًّا: تمتلك إيران موقعًا استراتيجيًّا في الجنوب الغربيّ من قارة آسيا، بإطلالتها على مسطّحات مائيّة [الخليج العربيّ والبحر العربيّ والمحيط الهنديّ وبحر قزوين]، ما جعلها تمثّل حلقة الوصل بين الشرق والغرب. وقد اكتسب موقعها أهمّية كبيرة بإطلالته على مضيق هرمز، الذي يعبر خلاله أكثر من 100سفينة نفطيّة شهريًّا، مما أعطى لإيران ميزة استراتيجيّة، فمن يمتلك النفط أشبه بمن يمتلك الخزنة المليئة بالذهب، ومن يسيطر على ممرات عبوره أشبه بمن يمتلك مفتاح تلك الخزنة. ويضاف إلى ما تقدّم وقوعها بين منطقتين غنيّتين بالنفط، الأولى غربًا وتتمثل في الخليج العربيّ الذي يكتسب أهمّية كبيرة لاحتوائه على أكبر احتياطيّ نفطيّ في العالم [643مليار برميل]، والثانية شمالًا وتتمثل في بحر قزوين، إذ يبلغ الاحتياطيّ النفطيّ فيها [8-16مليار برميل][24].
2- ديموغرافيًّا: بلغ عدد السكان نحو 80.9 مليون خلال 2013 وفقًا للتقديرات الأمميّة لتحتلّ المركز الـ19 عالميًّا، وتُعَدّ من الدول ذات الكثافة السكانيّة المنخفضة، إذ تبلغ نحو 45 نسمة لكل كيلومتر، ما يجعلها في المركز الـ160 في ترتيب الدول الأكثر كثافة[25]، إلا أنها تعاني من حالة التعدّد والصراع بين القوميّة الفارسيّة وسط إيران [قرابة 48% من عدد السكان] والقوميّات: الأذرية [الأذريون الأتراك في الشمال الغربيّ 24%]، والكردية [غربيّ إيران 10%]، واللور [غربيّ إيران 8%]، والعربيّة [في الجنوب والجنوب الغربيّ 4%]، والبلوشية [في الشرق والجنوب الشرقي 2%]، والتركمان [في الشمال الشرقي 2%]، وآخرون بنسبة 2% مثل القبائل البختيارية، والقشقائية، مع تأكيد أن هذه النِّسَب تختلف من تقرير لآخَر لعدم وجود إحصائيّات رسميّة دقيقة. ويتركّز معظم الأقلّيّات الإيرانيّة على تخوم إيران بكلّ الاتجاهات، وهذا يفرض تحدِّيًا كبيرًا على القيادة في طهران، بحكم وجود نَزَعَات انفصاليّة لبعض هذه الأقلِّيّات، وأبرز هذه المشكلات عدم وجود أطراف مُتّحدة مع الكتلة الفارسيّة في الوسط، فالعرب في الجنوب والجنوب الغربيّ، حيث يمتدّون إلى دول الخليج، والبلوش في الجنوب والجنوب الشرقي، لهم امتداد في باكستان وأفغانستان، والتركمان في الشمال والشمال الشرقي على الحدود مع تركمانستان، والأذريون في الشمال والشمال الغربيّ لهم امتداد في أذربيجان، والأكراد في الغرب ولهم امتداد عرقيّ في تركيا وكردستان[26].
3- عسكريًّا: يقدّر تعداد الجيش الإيرانيّ ما بين 545-650 ألف مقاتل، عدا قوّات الاحتياط. ويرى الخبراء العسكريّون أن القوّات الإيرانيّة هي من بين الأقوى في المنطقة[27]، وهناك اختلاف في تقديرات عدد عناصر الحرس الثوريّ، إذ تشير تقديرات معهد الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة في واشنطن أن عدد أفراده لا يتجاوز 120، بينما يرى المعهد الدوليّ للدراسات الاستراتيجيّة في لندن أنه 350 ألفًا، ويمتلك الحرس قدرات دفاعية مثل أنظمة صواريخ بإمكانها حمل رؤوس عنقودية [انظر الجدول رقم 1]، وقد طوّر من قدراته العسكريّة في العقود الماضية في منظومات ا
لدفاع الجويّ والحرب الإلكترونية.
ووفقًا لتقرير وكالة تاس الروسيّة في أبريل 2016، تملك القوّات الإيرانيّة نحو 600 عربة قتاليّة مدرّعة و640 عربة مصفّحة، وأكثر من 8700 مدفع وراجمة صواريخ، وأكثر من 200 طائرة هليكوبتر، ونحو 180 بطارية دفاع جوّي، و29 غواصة و69 سفينة سطح قتاليّة [فرقاطات وزوارق صاروخيّة وكاسحات ألغام وسفن إنزال]، ونحو 330 طائرة حربيّة، وأكثر من 30 مروحيّة قتاليّة، ويمثل تطوير الصواريخ البالستيّة قائمة أولويّات برنامج التسلح الإيرانيّ، وقامت بإنشاء عديد من المصانع التسليحيّة كمجموعة صناعات الشهيد همت، ومصنع فاتح[28]، وهناك أهداف وطموحات لنظام إيران لتحقيق التقدم في المجال النوويّ رغم توقيعها الاتفاق النوويّ مع مجموعة “5+1” يوليو 2015، وتثير هذه الطموحات الإيرانيّة مخاوف دول العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والكيان الإسرائيليّ، وكذلك مخاوف دول الجوار، خصوصًا أن تطوير إيران برنامجها النوويّ ومساعيها للحصول على السلاح النوويّ قد يؤثر في تغيير العقيدة العسكريّة الإيرانيّة إلى هجوميّة عدائيّة.
بيد أن إيران لا تزال تعاني من قصور ملحوظ من حيث قدرتها على صيانة المعدّات الحربيّة وتوفير قطع الغيار، كما تستورد جلّ أنظمتها التسليحيّة من روسيا والصين وأوكرانيا، وهي أنظمة أقلّ تقدمًا من نظائرها في الغرب ولا تضاهيها، ومِن ثَمّ فإنه يمكن القول إنّ مقدّرات الجيش الإيرانيّ تُعَدّ دفاعيّة في طبيعتها أكثر منها هجوميّة، إذ إن نوعيّة التدريبات والمعدّات المتوفرة لا تؤهل تلك القوّات للقيام بمهمّات كبيرة خارج البلاد، كما أن حجم التسليح الإيرانيّ لا يتناسب مع حجمها السكانيّ ورقعتها الجغرافيّة الكبيرة ودورها.
4- اقتصاديًّا: تُعَدّ إيران من الدول الرئيسيّة في مجال إنتاج النفط والغاز بإنتاجها نحو 4,172 مليون برميل يوميًّا من النفط الخام، وفقًا لتقديرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكيّة [U.S.EIA]، وهي بذلك تُعَدّ سابع أكبر منتج للنفط بعد السعوديّة وروسيا والولايات المتحدة والصين وكندا والإمارات العربيّة المتحدة، كما أنتجت نحو 5,7 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعيّ الجاف في 2013، وهي بذلك تُعَدّ ثالث أكبر منتج للغاز في العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا، ويبلغ حجم احتياطيّها النفطيّ 600 مليار برميل[29]، وقد بلغ الاحتياطيّ النقديّ 126 مليار دولار في عام 2014، ونحو 110 مليارات دولار في عام 2015 [90-100 مليار دولار منهم من صادرات النفط] و94 مليار دولار في يناير 2016، وبذلك تمتلك إيران ثاني أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بعد المملكة العربيّة السعوديّة.
وفي المقابل هناك ديون ثقيلة على إيران بلغت نهاية يناير [2017] 700 ألف مليار تومان [200 مليار دولار]، وهو رقم كبير للغاية[30]، كما تعتمد إيران على اقتصاد المنتج الواحد [النفط والغاز] في الدخل القوميّ رغم تنوّع أنشطتها الاقتصاديّة، نظرًا إلى بيئتها الجبليّة، وقلّة المياه الصالحة للشرب والريّ، لأنّ معظم بحيراتها مالحة، مع عدم توافر الأرض الخصبة، فالجزء الأكبر من أراضيها صحراويّ، ممّا يؤثر سلبًا على أمنها واستقرارها نتيجة الاحتجاجات على الظروف المعيشيّة الصعبة في تلك المناطق ويرهق ميزانيتها، بخاصّة مع التوسّع وزيادة رقعة الامتداد الشيعيّ في دول الجوار.
رابعًا: المحدّدات الخارجيّة للـدور الإيرانيّ في سوريا
يُقصد بمحدّدات الدور الخارجيّ لوحدة دوليّة ما، تجاه الوحدات الدوليّة الأخرى، مجموعة المتغيرات التي يمكن أن تشكل في النهاية السلوك السياسيّ الخارجيّ للوحدة الدوليّة وتؤثر على دورها الخارجيّ وعَلاقاتها الدوليّة. ورغم وجود اختلاف في تصنيفها، ومدى تأثيرها على الدور الخارجيّ، فإنها تعطي طابعًا مميزًا وخاصًّا للسياسة الخارجيّة والدور الخارجيّ، إذ إنّ تفاعل هذه المتغيرات وتشابكها يؤديان إلى تشكيل نمط معيّن من السلوك السياسيّ الخارجيّ. وفي ما يلي المحدّدات الخارجيّة للدور الإيرانيّ في سوريا:
1- التحالفات العربيّة-الإسلاميّة: في مقابل المشروع الجيو-سياسيّ الإيرانيّ شرعت الدول الخليجيّة والعربيّة وعلى رأسها المملكة العربيّة السعوديّة في بناء تحالفات جديدة خليجيّة-عربيّة-إسلاميّة، منها تأسيس «التحالف العربيّ لدعم الشرعيّة في اليمن» من دول عديدة بقيادة السعوديّة، وقد بدأت عملياته في اليمن في مارس 2015 استجابة لطلب الرئيس عبد ربه منصور هادي، لصدّ هجوم الحوثيين واحتلالهم أرضًا في اليمن. وتستهدف غاراته الحوثيين والقوّات الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي أطيح به في عام 2011 في الثورة اليمنيّة. وتشارك في عملياته طائرات مقاتلة من المغرب والأردن والسودان والإمارات والكويت وقطر [استُبعدَت من التحالف بعد قطع السعوديّة والإمارات والبحرين ومصر واليمن عَلاقاتها الدبلوماسيّة معها في 4/6/2017] والبحرين ومصر، وفي 21 أبريل 2015 أعلنت السعوديّة مرحلة عودة الأمل وانتهاء عاصفة الحزم بعد تدمير الأسلحة الثقيلة والصواريخ البالستية التي تشكل تهديدًا لأمن السعوديّة والدول المجاورة.
كما دشنت الدول العربيّة والخليجيّة والإسلاميّة في 15 ديسمبر 2015 «التحالف الإسلاميّ العسكريّ لمحاربة الإرهاب»، وهو حلف عسكريّ بقيادة المملكة العربيّة السعوديّة يضم 41 دولة مسلمة، ويملك غرفة عمليات مشتركة بالرياض، ويهدف إلى محاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره أيًّا كان مذهبها وتسميتها حسب بيان إعلان التحالف، وهو ما ينطبق على النشاط التوسعيّ الإيرانيّ لدعمه المكون الشيعيّ بالسلاح لقتل المكون السنّي. ثم أجمعت الدول الـ55 العربيّة-الإسلاميّة بالإضافة إلى الولايات المتحدة المشاركة في القمة العربيّة-الإسلاميّة-الأمريكيّة التي انعقدت بالرياض يوم 21/5/2017 على مفهوم «الإرهاب الإيرانيّ»، واعتبار مَن ينفّذ، بل مَن يموّل الإرهاب بكل أشكاله وألوانه -بما في ذلك الميليشيات المسلحة في سوريا والعراق واليمن ولبنان- إرهابًا دوليًّا يجب مواجهته ومكافحته بشتى السبل، وفي هذا السياق يأتي التزام الدول المشاركة بتوفير قوّة احتياط قوامها 34 ألف جنديّ لدعم العمليّات ضدّ المنظمات الإرهابيّة في العراق وسوريا عند الحاجة، وكذا افتتاح المركز العالميّ لمكافحة التطرف «اعتدال» يوم 21/5/2017 كثمرة للتعاون الدوليّ في مواجهة الفكر المتطرف المؤدّي للإرهاب والإرهاب الإيرانيّ خاصّة[31].
2- الموقف التركيّ والتقارب مع روسيا: رغم نجاح إيران وتركيا خلال الأعوام الستة الماضية في تحييد خلافاتهما حول الصراع في سوريا، لكن عندما بدا أن ثمة اتجاهًا دوليًّا وإقليميًّا داعمًا للوصول إلى تسوية سياسيّة للأزمة السوريّة، بدأت تلك الخلافات تعود إلى الواجهة من جديد، وهو ما بدا جليًّا سواء خلال المباحثات الثلاثيّة التركيّة الإيرانيّة الروسيّة في 20 ديسمبر 2016، أو خلال المفاوضات الثنائيّة التركيّة-الروسيّة التي انتهت بإعلان وقف إطلاق النار. وهنا، قد يمكن القول إنّ تلك الخلافات وصلت إلى مرحلة النضوج، بشكل لم تَعُد معه السياسة القائمة على احتوائها أو تحييدها تكتسب أهمّية ووجاهة خاصّة في رؤية كل من طهران وأنقرة. لكن ذلك لا يعني في المقابل أن التصعيد الإيرانيّ ضد تركيا سوف يصل إلى مرحلة غير مسبوقة، لا سيّما أن طهران -رغم استيائها من السياسة التركيّة- لا تستطيع المجازفة بالدخول في صراع مفتوح مع تركيا، على الأقل في المرحلة الحاليّة[32].
ورغم إبداء كبار المسؤولين الإيرانيّين ترحيبهم بالجهود التي تبذلها روسيا بالتعاون مع تركيا من أجل تدعيم فرص نجاح مفاوضات الاستانة التي تهدف إلى تعزيز اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه برعاية روسيّة-تركيّة في 30 ديسمبر 2016، فإنّ ذلك لا ينفي أن ثمة مخاوف عديدة انتابت إيران يفرضها ارتفاع مستوى التفاهمات الجارية الروسيّة-التركيّة، ومن دون شك فإن التعاون بين روسيا وتركيا في محاربة داعش في مدينة الباب صعّد من حدّة المخاوف التي تنتاب إيران، باعتبار أن ذلك يمكن أن يوسع من نطاق الدور والنفوذ التركيّ داخل سوريا، خصوصًا مع التقارير التي تشير إلى أن تركيا تسعى إلى ضمان الحفاظ على وجود عسكريّ لها في مدينة الباب حتى بعد انتهاء العمليّات العسكريّة التي تشنّها قوّات درع الفرات والتي تلقت دعمًا روسيًّا تمثل في الضربات الجوّية التي شنتها روسيا ضد مواقع داعش[33].
وفي مقابلة له مع قناة «الجزيرة» القطرية 19/4/2017 أبدى الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان موقفه من الدور الإيرانيّ التوسعيّ، منتقدًا سياسة إيران في سوريا: «طهران تنتهج سياسة انتشار وتوسع فارسيّة واعتمدت السياسة التوسعيّة بناء على القوميّة الفارسيّة»، متابعًا: «إيران تريد التغلغل في دول عربيّة لتشكيل قوّة فارسيّة»، مؤكدًا أن بلاده «لن تسمح باقتطاع أراضٍ من سوريا لصالح دول أخرى»[34]، وهو ما أثار ردود فعل إيرانيّة سلبيّة بشدّة تجاه الموقف التركيّ.
وهنا، يمكن القول إنّ حرص إيران على تبنّي «سياسة الانتظار» في التعامل مع تلك التفاهمات الروسيّة-التركيّة، أو التفاهمات الأمريكيّة الخليجيّة يعود إلى أن مخاوفها من التداعيات التي يمكن أن تفرضها لا تنفي -في الوقت ذاته- حاجتها الشديدة إلى الحفاظ على عَلاقاتها القويّة مع روسيا وتركيا، خصوصًا أن الفترة المقبلة قد تشهد تصعيدًا أمريكيًّا ضدّها، وهو ما بدأت مؤشراته في الظهور مع تلويح بعض نواب الكونغرس الأمريكيّ بإمكانيّة طرح مشروع قانون يلزم وزارة الخارجيّة الأمريكيّة بإدراج الحرس الثوريّ باعتباره منظمة إرهابيّة تهدد أمن العالم، وتجديد فرض العقوبات الأمريكيّة على إيران، وتصريحات ترامب من التوسع الإيرانيّ في سوريا والعراق واليمن.
3- المحدّد الإسرائيليّ: الحليف الإسرائيليّ الاستراتيجيّ لواشنطن في المنطقة حدّد على المدى المنظور والتكتيكيّ أربعة خطوط حمراء، دونها لن تتحرك للتدخل في الصراع السوريّ المتعدد الأطراف: [أ] منع قوّات الأسد من الاقتراب من خطوط وقف إطلاق النار في هضبة الجولان المحتلة. [ب] منع حزب الله وإيران من استغلال الحرب في سوريا لتهريب سلاح متطوّر، خصوصًا الصواريخ داخل الجنوب اللبناني لدعم الترسانة الحربية لحزب الله. [ج] منع تمركز الجماعات المسلحة التي تقاتل قوّات الأسد وحلفاءه قرب هضبة الجولان. [د] عدم السماح للتدخل الروسيّ في الحرب السوريّة بإعاقة حركة الجيش الإسرائيليّ في تحقيق الأهداف الثلاثة السابقة، وعلى مدى السنوات الماضية نجحت إسرائيل في أن تجبر خصومها أو منافسيها على عدم تخطي الخطوط الأربعة سالفة الذكر في الصراع السوريّ، باتخاذها موقف المراقب الذي لا يتدخل في الأحداث إلا بقدر من الإجراءات تستدعيها الخطوط الحمراء الموضوعة من جهتها[35]. الأهمّ من ذلك أنّ إسرائيل انتزعت اعترافًا من روسيا بمصالحها في سوريا في تصريح أدلى به الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في خطابه أمام الأمم المتحدة في سبتمبر 2016 بقوله إن «روسيا تُقرّ بحقّ إسرائيل في الدفاع عن مصالحها في سوريا»[36]، وعندما أدركت إسرائيل تجاوزًا إيرانيًّا عن المسموح به في سوريا حذرت إيران بشدة مطلع أبريل 2017 على لسان سفيرها لدى روسيا غازي كوين: «لن نسمح ببناء قاعدة إيرانيّة في سوريا، إذ إنّ بناء قاعدة إيرانيّة بحريّة وحصول طهران على مرفأ في سوريا، ليس من مصلحة روسيا ولا إسرائيل»[37]. وفي مارس 2017 قبيل يوم واحد من زيارته لموسكو للقاء بوتين للضغط على إيران ومنعها من إقامة قاعدة عسكريّة بحريّة في سوريا تحسبًا لاقتراب الخطر من أن يؤدّي ذلك إلى تعزيز قوّة حزب الله وتقصير مدى الرماية الصاروخيّة الإيرانيّة ضدّها، صرّح رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو: «إسرائيل والولايات المتحدة قرّرتا القيام بعمليّة لردع نفوذ إيران في سوريا»، ومِن ثَمّ يقف الرفض الإسرائيليّ بجوار التركيّ الأمريكيّ حائلًا أمام أيّ طموحات إيرانيّة عسكريّة كبناء قاعدة بحريّة في سوريا.
4- المحدّد الأمريكيّ: منذ وصوله إلى سُدّة الحكم في 20/1/2017 تبنى الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب استراتيجيّة جديدة مغايرة لاستراتيجيّة سلفه باراك أوباما، الذي تبنى مبدأ «القيادة من الخلف» الذي يقوم على محورين: الأول يقوم على التوجه إلى الداخل الأميركي وإيلائه القدر اللازم من الزخم السياسيّ من أجل تمرير أفكار أوباما الدائرة حول أن قوّة أميركا تنبع من تماسكها ونمائها في الداخل وليس من عَلاقاتها الدوليّة وسطوتها الخارجيّة، الثاني سعيه الحثيث لاحتواء دول كانت تُعَدّ دولًا مارقة مثل إيران وروسيا، وهو ما أتاح حرّية الحركة لتلك الدول في الإقليم[38].
وتقوم استراتيجيّة ترامب على مبدأ «القيادة من الأمام»، أي التعامل مباشرة مع الأزمات في الشرق الأوسط ومناطق الصراع حول العالم لتحقيق الأهداف الأمريكيّة من وجهة نظر الإدارة الأمريكيّة الجديدة، وفي هذا السياق يأتي الموقف الأمريكيّ الرافض للتحركات المنفردة في الشرق الأوسط بعيدًا عن الرغبة الأمريكيّة، ومن هنا نجد الموقف الأمريكيّ المعارض بشدة للمشروع الإيرانيّ في سوريا والعراق واليمن،
عهـدنا في علم العَلاقات الدوليّة أن الوحدات الدوليّة التي تمارس أدوارًا خارجيّة [تعاونيّة، تنمويّة، صراعيّة، توسعيّة، داعمة للإرهاب والتطرّف، تكامليّة، طامحة للهيمنة… إلخ]، تمارسها في ضوء حجم قدراتها القوميّة المتاحة ومستوى تحديثها، بما يتجاوز بكثير مساحة دورها الإقليميّ أو الدوليّ، أو يتعادل معها على أقل تقدير مع توافر عنصر الإدراك لدى النظم الحاكمة لتلك الوحدات الدوليّة. وهناك دول تمارس أدوارًا خارجيّة بحجم قدرات قوميّة ومستوى تحديث أقل من مساحة دورها الخارجيّ سواء في المحيط الإقليميّ أو الدوليّ أو الاثنين معًا، هذه الدول لا يرتبط معدل استمراريّة دورها فقط بقدراتها القوميّة ومستوى تحديثها، وإنما أيضًا بمحدّدات دورها الداخليّة والخارجيّة، ومدى سماح الظرف الإقليميّ والدوليّ بذلك الدور.
وفي هذا السياق سوف نلقي الضوء على الدور الإيرانيّ في سوريا، الأزمة الأكثر تعقيدًا وتشابكًا وخطورة على حالة السلم والأمن في الإقليم، لتعدّد أطرافها الإقليميّة والدوليّة، والتي تشكّل فواعل إقليميّة ودوليّة تمتلك من القدرات ما يجعلها تسعى للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المعادلة السوريّة الجديدة أو أن تكون رقمًا لا يمكن تجاوزه، أو لحفظ توازن القوى في الإقليم الحيويّ المضطرب. أزمة تشهد محاصرة إقليميّة ودوليّة للدور الإيرانيّ وميليشياته المسلحة المتوغلة جيو-سياسيًّا في سوريا لتحقيق التغيير الديموغرافيّ عمليًّا لصناعة واقع ديمغرافيّ جديد في سوريا، يشكّل ركيزة المشروع الإيرانيّ الجيو-سياسيّ في المنطقة. كما سنلقي الضوء كذلك على دوافع هذا الدور ومحدّداته في ضوء افتراضات نظريّة الدور في العَلاقات الدوليّة للوقوف على مساحة الدور الإيرانيّ في سوريا، ومدى توافق هذا الدور مع القدرات الإيرانيّة، ومستقبل هذا الدور في ضوء مقارنة المساحة بالقدرات والتحوّل في المواقف الإقليميّة والدوليّة نحو محاصرة الدور الإيرانيّ في المنطقة، خصوصًا في سوريا.
أولًا: افتراضات نظريّة الـدور في العَلاقات الـدوليّة
1- مفهوم الـدور وخصائصه: وفق نظريّة الدور يُعَدّ مفهوم الدور من المفاهيم المركزيّة التي وظّفتها أدبيّات السياسة الخارجيّة التي تنطلق من افتراض أنّ لكل وحدة دوليّة دورًا أو مجموعة من الأدوار التي تضطلع بها في النظامَين الإقليميّ والدوليّ، بدافع إما آيديولوجيّ وإما براغماتيّ… إلخ، وأنّ هذه الأدوار تحدّدها الوحدة الدوليّة بناءً على فهم صانعي السياسة الخارجيّة لمقدّرات دولهم، ولشكل النظامَين الإقليميّ والعالميّ، والفرص المتاحة فيهما، وهل يسمحان بهذا الدور سواء السلبيّ [التوسعيّ، الداعم للإرهاب والتطرّف، الحاضّ على التثوير ضد الأنظمة القائمة… إلخ]، أو الإيجابيّ [التنمويّ، التكامليّ، الداعم لحفظ الأمن والاستقرار… إلخ]، أم أن هناك حسابات واعتبارات سياسيّة لدى صنّاع القرار في هذين النظامَين الإقليميّ والدوليّ، أو طبيعة النسق العقيديّ للقائد السياسيّ، تحول دون ذلك؟ كذلك تفترض تلك الأدبيّات أنّ سلوك الوحدات الدوليّة في النظامين إنما هو ترجمة لتلك الأدوار





